يُمثل الوقف الشرعي إحدى أبرز المؤسسات التي تميَّزت بها الشريعة الإسلامية، لِما له من دور محوري في تحقيق التكافل الاجتماعي، وتعزيز التنمية المستدامة في المجتمعات الإسلامية، فالوقف يجمع بين الأصالة الشرعية باعتباره نظامًا تعبديًا له جذور راسخة في الكتاب والسنة، وبين الأبعاد المجتمعية والاقتصادية التي تتجلى في آثاره التنموية المتعددة، مما يجعله من أعظم صور البر والإحسان المستمر.
ويتناول هذا المقال الوقف من جوانبه المتعددة، حيث يبدأ ببيان ماهيته ومشروعيته في الشريعة الإسلامية، موضحًا تعريفه اللغوي والاصطلاحي، والأساس الذي بني عليه تشريعه، ثم يستعرض بعض الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية التي تدل على مشروعية الوقف، وما ورد عن الصحابة والتابعين في هذا الشأن، كما يناقش المقال حكم الوقف وحكمة تشريعه، مبينًا منزلته في الإسلام، والأهداف التي يحققها على مستوى الفرد والمجتمع، وأخيرًا، يتم التطرق إلى أهداف الوقف، لا سيما تلك التي ترتبط بتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ونشر العلم، ودعم الفئات المحتاجة، مما يعكس مدى شمولية هذا النظام ومرونته في الاستجابة لمتطلبات العصر.
يهدف هذا المقال إلى بيان مكانة الوقف باعتباره أداة فعَّالة تجمع بين الالتزام الديني والتفاعل الحضاري، وتُسهم في بناء مجتمع متكافل ومتوازن تسوده العدالة والتراحم.
1. ماهية الوقف ومشروعيته
الوقف، بمفهومه الشامل، هو تخصيص منفعة معينة وتوجيهها لدعم إحدى وجوه البر، وهو يُعد بمثابة الصدقة غير أن منفعتها تكون محبوسة وممنوعة من التصرف فيها إلا فيما تم تخصيصه له، ويُعتبر الوقف صيغة إسلامية تاريخية ابتكرها المسلمون كوسيلة للتقرب إلى الله، من خلال المساهمة الفاعلة في المجتمع المحلي على وجه الخصوص، وفي عمارة الأرض بشكل عام، وقد “استلهم الغرب هذه الفكرة من المسلمين في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث نقلوا مفهوم الوقف إلى بلدانهم وأطلقوا عليه مسمى “منظمات المجتمع المدني“، وقد تبنى المسلمون هذه الفكرة بدورهم في أواخر القرن العشرين”(1).
- الوقف لغة: “الحَبْس”(2).
- الوقف اصطلاحًا: عرفه الإمام أبي حنيفة على أنه “حبس شيء معلوم بصفة معلومة”(3)، وعند الإمام مالك هو “إعطاء منفعة شئ مدة وجوده، لازماً بقاؤه، في ملك معطيه ولو تقديراً”(4)، وعند الأمام الشافعي هو “حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته، على مصرف مباح موجود”، وهو أخيرًا عند الإمام أحمد بن حنبل “تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة”(6)، وعلى الرغم من أن كل مذهب فقهي قد قدَّم تعريفًا خاصًا للوقف، يعكس منهجه في الاستنباط وتفسير النصوص الشرعية، إلا أن جميع هذه التعاريف تدور حول فكرة مركزية واحدة، وهي حبس الأصل ومنع التصرف فيه، مع صرف منفعته في أوجه الخير.
تعريفات الأئمة للوقف
فعند الإمام أبي حنيفة، يُلاحظ أن التركيز كان على “حبس شيء معلوم بصفة معلومة”، أي التشديد على تحديد العين الموقوفة وضبط شروط الوقف، مما يعكس منهج الحنفية الدقيق في ضبط المعاملات.
أما الإمام مالك فقد ركز في تعريفه على “إعطاء المنفعة” دون إخراج العين عن ملك صاحبها، بل تبقى في تقدير الملك له، وهو ما يعكس مرونة المالكية في اعتبار بقاء الملكية الاسمية للواقف دون تعارض مع غرض الوقف.
ويرى الإمام الشافعي، فإن تعريفه يُبرز أهمية “حبس المال مع بقاء عينه”، مع “قطع التصرف في رقبته”، مما يظهر حرص الشافعية على فصل الملكية عن المنفعة بشكل واضح، لضمان ديمومة الوقف واستمراريته في تحقيق أهدافه.
أما الإمام أحمد فقد لخَّص معنى الوقف في عبارة موجزة جامعة: “تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة”، وهو تعبير دقيق يشير إلى جوهر الوقف، أي تثبيت المال وصرف منفعته في أوجه البر.
وعليه، يتبين أن الاختلاف بين هذه التعاريف إنما هو في التفاصيل الفقهية والمصطلحية التي تعكس اجتهادات الأئمة ومذاهبهم في فهم النصوص وتطبيق المقاصد الشرعية، ولكن جوهر الوقف واحد في جميع المذاهب، وهو منع التصرف في الأصل وتخصيص المنفعة في سبيل الخير، مما يدل على اتفاق ضمني على فلسفة الوقف وغايته، حتى مع اختلاف العبارات والصياغات.
الوقف من المنظور الاجتماعي
هو صيغة قانونية مالية إسلامية المنشأ(7)، تُشكل ركيزة أساسية ضمن الصيغ المعتمدة في المجتمع المدني، ويُعمل بها في إطار العمل التطوعي المساهم في بناء الدول المعاصرة، ويُعتبر الوقف من أبرز الآليات التي اعتمدت عليها المجتمعات في التاريخ الحديث ضمن ممارسات العمل التطوعي والتنمية المجتمعية، ومن الصيغ المتعارف عليها في هذا المجال: الوقف – الوصايا الخيرية – المبرات الخيرية – النفع العام.
2. الأدلة الشرعية على مشروعية الوقف
يُمثل الوقف إحدى أدوات النظام المالي في الإسلام، ويستند في مشروعيته إلى أدلة نقلية، تُستنبط منها دلالات عقلية تُسهم في بناء تصور متكامل لتطبيقه وتفعيله في مختلف المجالات.
دليل المشروعية من القرآن الكريم
وردت في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحث على بذل المال طلبًا لرضا الله تعالى، وتلبيةً لحاجات الناس، وتعزيزًا لمبدأ التكافل المجتمعي، ويمكن الاستفادة من هذه التوجيهات في العصر الحاضر من خلال الإسهام في تطوير بعض قطاعات البنية التحتية للدولة، وضمان استدامة عملها عن طريق تخصيص أوقاف لدعمها، وفي هذا السياق، سأكتفي بذكر ثلاثة أمثلة من القرآن الكريم، وثلاثة من السنة النبوية، على سبيل التمثيل لا الحصر.
1- قال تعالى في سورة النحل: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (96)، تُظهر هذه الآية الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة، حيث أن ما في الدنيا زائل وقابل للنفاد، بينما ما عند الله ثابت لا يتغير ولا يزول، على عكس ما يحدث في الدنيا.
2- قال تعالى في سورة الإنسان: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا﴾ (8- 9)، تحث هاتان الآيتان على تعزيز مبدأ التكافل المجتمعي الذي يتسم بالشمولية، حيث لا تفضيل بين فئة وأخرى مهما كانت الظروف.
3- كما قال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُوا من شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(92)، وُرِد في تفسير البر أنه يعني “الجنة”(8)، وحين نزلت هذه الآية، قال أبو طلحة رضي الله عنه “إن ربنا ليسألنا من أموالنا فأُشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله، فقال رسول الله ﷺ اجعلها في قرابتك في حسان بن ثابت وأُبَيّ بن كعب”(9).
دليل المشروعية من السنة المطهرة
مما هو معروف أن الوقف يُعد من أسمى القربات إلى الله تعالى، حيث يتنازل الواقف طواعية عن ما يحب ويملك، من أموال وأراضي وعقارات، ابتغاء مرضاة الله، فقد رُوي أن رسول الله ﷺ قال “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”. (صحيح مسلم: 1631).
وقد قال رسول الله ﷺ عندما سأله عمر بن الخطاب رضى الله عنه، عن أرضٍ أصابها بخيبر يستأمره فيها “إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يُباع أصلها- ولا يوهب ولا يورث” (صحيح البخاري: 2737)، وقد علق العسقلاني على الحديث، بأنه “أصل في مشروعية الوقف”، يمكن ملاحظة أن الوقف يعد نوعًا من العطاء التطوعي المستمر الذي يعود نفعه على الواقف والموقوف عليه.
كما حثَّ الرسول ﷺ الناس على القيام بالأعمال النافعة في حياتهم، ليحصلوا على ثوابها حتى بعد وفاتهم، قال: “إن مما يلحق المؤمن من عمله، وحسناته بعد موته، علمًا علمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثة، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته” سنن بن ماجة حديث رقم 242، من هنا يتبين أن الرسول ﷺ يشجعنا على أن نكون أفرادًا فاعلين في المجتمع من خلال تحمل المسؤولية الاجتماعية وعدم التهرب منها، سواء على المستوى الأسري أو المجتمعي.
3. حكم الوقف وحكمة مشروعيته
حكم الوقف
نظرًا لأن للناس حرية التصرف في أموالهم، فلا حرج عليهم في إنفاقها لتحقيق أهداف دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عسكرية، أو غيرها من أوجه النفع العام، ما دام ذلك لا يُلحق ضررًا بهم أو بغيرهم، فقد ذهب جمهور الفقهاء، إلى القول بأن الوقف “مستحب”، لِما يتضمنه من برِّ الأهل والمقربون، والاهتمام بالعامة من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، طلبًا لرضا الله تعالى، فالوقف يُعد صدقة جارية لا ينقطع أجرها بوفاة الواقف، وهو من جهة صلةُ رحمٍ في نطاقهِ الخاص، ومن جهة أخرى أحد أوجه البر في عمومه، يقصد به الواقف وجه الله، ويسعى من خلاله إلى توفير الحماية والرعاية للموقوف عليهم، ومن ثم، لا يجوز لأحد، سواء الواقف أو الموقوف عليهم أو غيرهم، أن يتصرف في الوقف بعد إتمامه، إذا توفرت شروط صحته، لأن الوقف إذا صح “خرج عن ملك الواقف ولم يدخل في ملك الموقوف عليه”(10).
وبناءً على ذلك، يمكن القول إن المال الموقوف يخرج من ملكية الواقف ويدخل في ملكية الله تعالى، إذ إن الوقف يُزيل صفة التملك عن صاحبه، فلا يحق له بعد ذلك التصرف في أصل المال الموقوف، وفي الوقت نفسه، لا ينتقل هذا المال إلى ملكية الموقوف عليهم، وبالتالي لا يملكون التصرف فيه أيضًا، ويُعد الوقف عملًا تطوعيًا يهدف إلى تحقيق الخير للإنسانية وسائر المخلوقات، إذ لم تقتصر الأوقاف في التاريخ على خدمة البشر فحسب، بل وُجدت أوقاف خُصصت لسقي وإطعام الطيور والدواب، في دلالة على سعة مفهوم البر في الوقف.
حكمة مشروعية الوقف
أما الحكمة من مشروعية الوقف، فتنطلق من القاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي قاعدة أصيلة في الشريعة الإسلامية، وتنقسم مقاصد الشريعة إلى ثلاث مراتب:
- المقاصد الضرورية: وهي ما لا تستقيم حياة الناس إلا بها، وتشمل: “حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل”.
- المقاصد الحاجية: وهي ما يحتاجه الناس للتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهم.
- المقاصد التحسينية: وتتمثل في الأخذ بمكارم العادات ومحاسن الأخلاق، واجتناب ما تستقبحه الفطرة السليمة والعقول الراجحة.
وهذه المقاصد جميعها تسهم في تحقيق مصالح العباد في دينهم ودنياهم، والوقف أداة فعالة لخدمة هذه المقاصد.
4. أهداف الوقف الشرعي
لأهداف الوقف أبعاد متعددة، فمن الجانب الديني، يُتيح الوقف الفرصة للراغبين – دون إلزام – في تقديم صدقة جارية لأنفسهم أو لغيرهم، طلبًا للأجر والثواب المستمر.
أما من الجانب الدنيوي، فيسعى الوقف إلى تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي وتعزيز التنمية المجتمعية، مما يسهم في استقرار المجتمع وازدهاره، بالإضافة إلى حفظ المال وضمان استدامة عطائه على المدى الطويل، وعليه، يمكن القول إن أهداف الوقف تقوم أساسًا على تحقيق مصالح دينية واجتماعية واقتصادية تعود بالنفع على الفرد والمجتمع، فأهداف الوقف “تمثل دعمًا حيويًا لكثير من المحتاجين خاصة في ظل عدم كفاية الموارد المالية الإسلامية الأخرى”(11)، فالهدف من الوقف لا يقتصر على البعد الديني فحسب، بل يشمل أيضًا جانبًا دنيويًا عمرانيًا يساهم في تنمية المجتمع وازدهاره.