حكمة الله في شرعه هي أختُ حكمته في صنعه. فكما أن لله تعالى آياتٍ في خلقه وصُنعه، فكذلك له آياتٌ في حكمه وشرعه، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 54].
فالنظر والتدبر في أسرار الشريعة ومقاصدها، شأنه كشأن النظر والتدبر في أسرار الطبيعة وآياتها. فكل منهما يزيدنا معرفة بالله وصفاته، ويزيدنا طمأنينة إلى لطفه وحكمته، ويوصلنا إلى يقين لا مزيد عليه. وهذا هو منهج نبي الله إبراهيم الذي قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة : 260].
فلنكن على ملة إبراهيم ونهجه، عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى في حقه: {وَكَذَلِكَ نرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْموقِنِينَ} [سورة الأنعام : 75] ، ثم قال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام : 83].
فرسول الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد عُرف بتأملاته في ملكوت الله وآياته الكونية، وبحرصه على اختراق الظواهر إلى ما وراءها. فلذلك كانت درجته أعلى وحجته أقوى. وهكذا كل من تدبر أحكام الشريعة وحدودها، حتى عرف حكمتها ومقصودها.
وفي قصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام — وهي مفصلة في سورة الكهف — ما يفيد أن درجة الرشد والكمال في الدين إنما تحصل بفهم مقاصد الأحكام وأسرارها ومراميها. وقد كان الخضرُ أعلمَ وأمْكَنَ من موسى في هذا الباب. فموسى كان أدرى بالأحكام، والخضر كان أدرى بالحِكَم. ولذلك سأل موسى الخضرَ أن يعلمه ويزيده تبصرا ورشدا. قال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف : 64 — 66]. فالرشد والعلم هنا إنما يتعلقان بمعرفة المقاصد والحِكَم، كما يظهر ذلك جليا في الدروس التطبيقية التي قدمها الخضر لموسى…
والحاصل أن معرفة مقاصد الشريعة والتأمل فيها وتحصيل مكنوناتها، يعطي درجة أقوى من الإيمان بالله وبحكمته، ودرجة أعلى من التفقه في شريعته. وكما قال العلامة المناوي: “فالفقه في الدين جند عظيم يؤيد الله به أهل اليقين الذين عاينوا محاسن الأمور ومشائنَها، وأقدار الأشياء وحسن تدبير الله تعالى في ذلك لهم بنور يقينهم، ليعبدوه على بصيرة وطمأنينة“[فيض القدير شرح الجامع الصغير 2/511].