أحمد بن يحي بن محمد الونشريسي الجزائري الملقب بحامل لواء المذهب على رأس المائة التاسعة، من أبرز وأشهر فقهاء المالكية في الغرب الإسلامي، وتميزه وتفرده يظهر في جمعه لشتات الفتاوى والآراء والنوازل التي تناثرت في أقطار العدة المغربية والأندلسية في موسوعته الضخمة المعروفة “المعيار المعرب”، وباعتبار الاحتفاء الذي يبديه الموقع لوفيات العلماء فلنا أن نسهم في التعريف به وبمؤلفاته ومحنته السياسية وهجرته، وأخيرا وفاته بفاس المحروسة في عشرين من صفر سنة (914هـ).

ولد الإمام أحمد الونشريسى  بالمغرب الأوسط، والذي عُرف حديثا بالجزائر، في غربها، الذي كان يعرف بالواسطة أو الشرقية بالنسبة لساكنة المغرب الأقصى، ونسبته جلّية إلى الجبال العالية في الأطلس التلي المعروفة بالونشريس، وهي جبال عجيبة شاهقة تسكنها قبائل مغرواة الزناتية، وكان مولده سنة (834هـ -1431م)، وقد تلقى العلم العالي بتلمسان على يد شيوخ أجلّاء، حيث عرفت تلمسان أزهى عصورها، وكانت كعبة العلم ومحجّة الطلاب في القرون الزيانية، فتتلمذ للعقبانيين أبي الفضل قاسم وابنه أبي سالم ولابن الجلاب، والكفيف بن مرزوق، والغرابلي(1) .

امتاز العصر الزياني الأخير الذي عاش فيه الونشريسي بتناقض رهيب بين الاضطراب السياسي والغنى الثقافي، ففي الشق الأول كانت الانقلابات لا تفتر داخل البيت الزياني، إضافة إلى ضغط الجارتين الدولة الحفصية في تونس، والمرينية في المغرب الأقصى على المغرب الأوسط، فكم تبادلت الدول الثلاث السيادة على أراضي المغارب الثلاث مدا وجزرا، مما جعل الجميع يُرهق من هذه الفتن المتوالية، ويترك سواحل البلاد نهبا للصليبيين الإسبان والبرتغال.

وفي خضم فتن البيت الحاكم في تلمسان نالت الإمام الونشريسي محنة كبيرة، إذ اتهمه السلطان أبو عبد الله محمد بن ثابت المتوكل بانحرافه عنه، فصادر أمواله وهدم داره، ونجا الونشريسي من سجنه بفراره إلى فاس سنة (874ه)، ليقيم هناك ناشرا علمه أربعين سنة كاملة، ولا أدل على ما ذكرنا من أنه توفي في السنة التي أخذ فيها الإسبان وهران (914هـ-1509)، وامتد خطرهم حتى وصل بهم الأمر أن دخلوا تلمسان  سنة (950هـ -1543م).

وقد أجمع مؤرخو القرن العاشر على إمامة الونشريسي وريادته العلمية، وهو ما تحقق له في الفقه، وللسنوسي في علم العقيدة، مما يدل على مكانة تلمسان في تلك الأعصر الخالية.

ومن تلك الشهادات التي حُلي بها الونشريسي ما قاله الإمام أحمد المنجور:” كان عاكفا على تدريس المدونة وابن الحاجب الفرعي، وكان مشاركا في فنون العلم، إلا أنه لما لازم تدريس الفقه يقول من لا يعرفه أنه لا يعرف غيره، وكان فصيح اللسان والقلم حتى كان بعض من يحضره يقول لو حضر سبيويه لأخذ النحو من فيه” (2). وأما ابن غازي  المكناسي فقال في حقه في شهادة نادرة على علو كعبه في حفظ مذهب مالك:” لو أن رجلا حلف بالطلاق أن أبا العباس الونشريسي أحاط بمذهب مالك أصوله وفروعه لكان بارا في يمينه، ولا تطلق زوجته، لتبحره وكثرة اطلاعه وحفظه وإتقانه، وكل من يطالع كتبه يقضي بذلك” (3)،  ولشهرته الفقهية أسند إليه تدريس المدونة وابن الجلاب، ونشأ كرسي بجامع القرويين يُعرف بكرسي الونشريسي، وخلفه فيه ابنه  عبد الواحد شهيد المحراب سنة (955هـ).

وقد خلّف الونشريسي حلقة علمية في فاس، وافتتح بعمله عصرا ذهبيا للتدوين في المذهب المالكي، وترك مؤلفات فارقة في الفقه منها: تعليقه على ابن الحاجب الفرعي الفقهي، والواعي لمسائل الأحكام والتداعي، وعدة البروق في تلخيص ما في المذهب من الجموع والفروق، وغنية المعاصر، وشرح وثائق القشتالي، والقواعد في الفقه،  والمعروف ” إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، وهم من الكتب القواعدية الأولى وضمنه مائة وثماني عشر قاعدة، وهو وكتاب الفروق للقرافي من مهمات الباب.

كما ترك مصدرا مهما في أحكام القضاء والتوثيق وهو” المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق”، وهو ما يبين عن براعة مغاربية في علم القضاء، وهو ما تنهل منه اليوم تخصصات التوثيق والمحاماة، ومن المعلوم أن الفقه المالكي من مصادر القانون الفرنسي الحديث.

ووضع الونشريسي في الـتاريخ بكتابين مهمين هما فهرسته، وكتاب الوفيات الذي أكمله من بعده وذيّله العلامة ابن قنفد القسنطيني (810هـ) في ” شرف الطالب في أسنى المطالب”.

 كما أسهم الونشريسي في حوادث عصره بفتواه الشهيرة في وجوب الهجرة من الأراضي التي غلب عليها الإسبان في رسالته” أسنى المتاجر وبيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر” (4)، وهي فتوى لها ما بعدها في حركة نزوح الموريسكيين من الأندلس الشهيدة.

لكن أهم كتاب خلد اسمه هو” المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتواى علماء إفريقية والأندلس والمغرب” وهو كما وصفوه “جمع فأوعى وحصل فوعى”،  كيف لا وقد استغرق جمعه ربع قرن كامل، وقد استحق به شرف لقب حامل لواء المذهب.

يعتبر المعيار موسوعة ضخمة جمعت وأوعت لفتاوى المالكية في الغرب الإسلامي، وعنوانه يشي بذلك، وهو بذلك العمل الموسوعي الجامع لشتات الرسائل والفتاوى والأقضية الفقهية إضافة إلى حصائل كبيرة في العقيدة والتفسير والتصوف، وقد اعتمد فتاوى البرزلي ونوازل مازونة إضافة إلى فتاوى وشرح وتقاييد وبرامج الأندلسيين، ونقل لنا كثيرا من الفتاوى لعلماء كثر، ولولاه لضاعت وغبرت، وقد سطره على السنَنَ المالكي في أبواب الفقه، وختمه بكاتب الجامع على مهيع السادة المالكية في متابعتهم لموضوعات الموطأ للإمام مالك.

والكتاب مكنز ضخم في التعرّف على الحياة السياسية والاجتماعية والدينية للمغرب الإسلامي، وقد اقتصد لنا عملا كبيرا كاد أن يضيع في خضمّ الهجمة الإسبانية الكاسحة التي أكلت نيرانها آلاف المجلدات الأندلسية، وهذا العمل العلمي الهام يوازي الجهد نفسه في مصر المملوكية حيث عكف أمثال السيوطي على جمع موسوعات ضخمة حافظة للتراث الذي أتت عليه سنابك خيول المغول. وبقي أثر الونشريسي حيا فيمن بعده حتى أن شيخ الإسلام المغربي المهدي الوزاني استكمل عمله في جمع الفتاوى المتأخرة في كتابه” المعيار الجديد” فرحم الله هؤلاء الأفذاذ الذين حموا الشريعة، وحفظوا ميراث النبوة من الضياع.


المراجع:

(1) انظر البستان لا بن مريم التلمساني، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 2014، ص134.

(2) المنجور أبو العباس: فهرس المنجور (تح محمد حجي)، الرباط، 1396،  ص 50

(3) ابن عسكر الشفشاوني: دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشائخ القرن العاشر ( تح محمد حجي) ط3، الدار البيضاء، مركز التراث الثقافي المغرب، 2003،  ص 57.

(4) الونشريسي: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب (تح محمد حجي)، بيروت، دار الغرب الإسلامي،1981، ج 2 ص 90.