هل ما زالت الأمية تعني فقط العجز عن قراءة الحروف؟ ففي عصر تتحكم فيه الخوارزميات بمصيرنا الرقمي، لم يعد الجهل مقتصرًا على غياب مهارات القراءة والكتابة، بل أصبح يشمل عدم فهم العالم الرقمي الذي يحيط بنا. لا شك أن العالم يواجه اليوم شكلًا جديدًا من الأمية الرقمية والثقافية.
رغم التقدم التكنولوجي، لا يزال أكثر من 750 مليون شخص يعانون من الأمية التقليدية، بينما تظهر فجوة جديدة أكثر خطورة: التهميش المزدوج في ظل عالمٍ تحكمه البيانات والذكاء الاصطناعي.
إن إعادة تعريف “القراءة” أصبح ضرورة وجودية. فمحو الأمية اليوم لا يعني فقط تعليم الكتابة، بل تمكين الإنسان من التفكير النقدي، وحمايته من التضليل، وفتح أبواب المشاركة الفعالة في مجتمعات رقمية مستدامة.
من محو أمية الحرف إلى محو أمية العصر
في كل عام، وتحديدًا في الثامن من سبتمبر، يتوقف العالم للحظة ليتأمل في واحدة من أكثر القضايا جوهرية وتأثيرًا في مسيرة البشرية: قضية محو الأمية. اليوم الدولي لمحو الأمية الذي أقرته اليونسكو عام 1965، لم يكن يومًا للاحتفال بالإنجازات فحسب، بل كان وما زال جرس إنذار يقرع ليذكرنا بأن هناك أكثر من 750 مليون إنسان أمي بالغ على هذا الكوكب لا يزالون محرومين من أبسط حقوقهم: القدرة على فك رموز الكلمات. لكن في عام 2025، لم يعد هذا اليوم مجرد دعوة لتعليم القراءة والكتابة التقليدية، بل أصبح صرخة في وجه تحدٍ جديد وأكثر تعقيدًا.
نحن نقف اليوم على عتبة عصر رقمي تتشابك فيه حياتنا مع الخوارزميات، وتتراقص فيه المعلومات على شاشات هواتفنا، وتتحدث فيه الآلات بلغة الذكاء الاصطناعي. في هذا العالم الجديد، لم تعد الأمية تقتصر على عدم القدرة على قراءة كتاب، بل امتدت لتشمل العجز عن فهم وتفسير وتقييم هذا الطوفان الرقمي الذي يحيط بنا. لقد تحول مفهوم “الأمية” ذاته، وأصبح لزامًا علينا أن نعيد تعريف “المعرفة” في عالم لم يعد فيه الحبر والورق هما الوسيط الوحيد للحقيقة.

يأتي اليوم الدولي لمحو الأمية 2025 تحت شعار “تعزيز محو الأمية في العصر الرقمي”، ليس كشعار احتفالي، بل كإعلان عن معركة جديدة، معركة لا تهدف فقط إلى القضاء على أمية الحرف، بل إلى تسليح الإنسان بالأدوات النقدية والفكرية التي تمكنه من الإبحار بأمان في محيط الرقمنة الهائج، والمشاركة بفعالية في بناء مجتمعات معرفة عادلة ومستدامة.
الأمية في القرن الحادي والعشرين: أرقام مقلقة وأبعاد جديدة
قبل الخوض في تحديات العصر الرقمي، من الضروري أن ندرك أن المعركة التقليدية ضد الأمية لم تنتهِ بعد. تشير أحدث بيانات اليونسكو إلى حقائق صادمة:
- يوجد في العالم أكثر من 754 مليون شخص بالغ (فوق 15 عامًا) لا يمتلكون المهارات الأساسية للقراءة والكتابة.
- تشكل النساء ثلثي هذا الرقم، مما يعكس فجوة جندرية عميقة في الوصول إلى التعليم.
- هناك ما يقرب من 250 مليون طفل يفتقرون إلى المهارات الأساسية، إما لأنهم خارج المدرسة أو لأن جودة التعليم الذي يتلقونه متدنية.
تتركز هذه الأرقام بشكل كبير في مناطق جنوب وغرب آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، والعالم العربي، مما يرسم خريطة واضحة للعلاقة المأساوية بين الأمية والفقر والتهميش. إن التقاعس عن الاستثمار في التعليم الأساسي لا يكلف الأفراد مستقبلهم فحسب، بل يكلف الاقتصاد العالمي خسائر تقدر بنحو 10 تريليونات دولار سنويًا.
لكن الأرقام وحدها لا تروي القصة كاملة. ففي عالمنا العربي، ظهرت “أمية جديدة” لا تقيسها الإحصاءات التقليدية. إنها أمية العزوف عن القراءة، حيث تشير الدراسات إلى أن متوسط قراءة المواطن العربي لا يتجاوز كتابًا واحدًا في العام. هذه الأمية الثقافية لا تقل خطورة، فهي تفصل الأجيال الجديدة عن تاريخها وتراثها، وتضعف قدرتها على التفكير النقدي والمشاركة الفعالة في بناء مجتمعاتها.
تحديات محو الأمية في العصر الرقمي: فجوة مزدوجة
لقد أحدثت الرقمنة تحولًا جذريًا في كل جوانب حياتنا، من التعليم والعمل إلى التواصل الاجتماعي. وبينما تقدم الأدوات الرقمية فرصًا هائلة لتوسيع نطاق التعلم والوصول إلى الفئات المهمشة، فإنها في الوقت نفسه تخلق خطرًا جديدًا أطلقت عليه اليونسكو اسم “التهميش المزدوج” (Double Marginalisation).
هذا المفهوم يعني أن الأفراد الذين لم يتمكنوا من اكتساب مهارات القراءة والكتابة التقليدية، يجدون أنفسهم الآن مستبعدين ليس فقط من عالم الكتب، بل أيضًا من عالم الإنترنت والفوائد التي يقدمها العصر الرقمي. إنها فجوة فوق فجوة، تزيد من عزلة الملايين وتعمق من حالة عدم المساواة.
لم يعد محو الأمية يقتصر على فك الحرف، بل امتد ليشمل مجموعة من المهارات الرقمية الأساسية:
- الوصول إلى المعلومات: القدرة على استخدام الأدوات الرقمية للبحث عن المعلومات.
- فهم المحتوى: القدرة على قراءة وتفسير النصوص والصور ومقاطع الفيديو الرقمية.
- التقييم النقدي: وهي المهارة الأهم، وتعني القدرة على التمييز بين المعلومات الموثوقة والمضللة، وفهم التحيزات الخفية في المحتوى الرقمي.
- الإنشاء والتواصل: القدرة على إنتاج محتوى رقمي والتواصل مع الآخرين بشكل آمن ومناسب.
إن غياب هذه المهارات لا يؤدي إلى التخلف الاقتصادي فحسب، بل يفتح الباب أمام مخاطر جديدة مثل انتهاك الخصوصية، والمراقبة الرقمية، وتعزيز التحيزات عبر الخوارزميات، والاستهلاك السلبي للمحتوى.

الذكاء الاصطناعي: سيف ذو حدين في معركة محو الأمية
يبرز الذكاء الاصطناعي كأقوى التقنيات التي تشكل ملامح عصرنا، ويقدم فرصًا وتحديات غير مسبوقة في مجال محو الأمية.
الفرص الواعدة
- تخصيص التعلم: يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم تجارب تعليمية مخصصة لكل متعلم، حيث يتكيف مع سرعته ومستواه ونقاط ضعفه، مما يجعله أداة مثالية لتعليم الكبار الذين يمتلكون خلفيات واحتياجات متنوعة.
- تجاوز حواجز اللغة: يمكن لأدوات الترجمة الفورية أن تزيل عائق اللغة، وتتيح للمتعلمين الوصول إلى محتوى تعليمي عالمي بلغتهم الأم.
- أدوات مساعدة مبتكرة: يمكن للذكاء الاصطناعي تحويل النصوص إلى مواد مسموعة، وإنشاء اختبارات تفاعلية، وتقديم تغذية راجعة فورية، مما يجعل عملية التعلم أكثر جاذبية وفعالية.
التحديات والمخاطر
- الاعتماد المفرط والسطحية: قد يؤدي الاستخدام غير الواعي للذكاء الاصطناعي إلى إضعاف مهارات التفكير النقدي. فالطالب الذي يعتمد على روبوتات المحادثة لتلخيص النصوص وكتابة الواجبات، يفقد فرصة التفاعل العميق مع المادة، ويتحول من متعلم نشط إلى مستهلك سلبي.
- فجوة الوصول: يتطلب استخدام هذه الأدوات بنية تحتية رقمية وأجهزة حديثة، وهو ما قد لا يكون متاحًا في المجتمعات الأكثر فقرًا، مما يزيد من اتساع الفجوة الرقمية.
- التحيز الخوارزمي: نماذج الذكاء الاصطناعي ليست محايدة، بل تعكس التحيزات الموجودة في البيانات التي تدربت عليها. هذا قد يؤدي إلى تعزيز الصور النمطية وتقديم محتوى غير عادل أو غير دقيق ثقافيًا.
التعاون العالمي والجهود الرائدة: قطر كنموذج ملهم
إن مواجهة هذا التحدي المعقد تتطلب جهودًا عالمية منسقة. وتلعب منظمات مثل اليونسكو دورًا محوريًا في هذا المجال من خلال “استراتيجيتها لمحو أمية الشباب والكبار (2020-2025)”، التي تركز على دعم السياسات الوطنية، وتلبية احتياجات الفئات المحرومة، وتسخير التكنولوجيا الرقمية، ورصد التقدم المحرز.
وعلى المستوى العربي، تقدم دولة قطر نموذجًا رائدًا في هذا المجال. فبفضل الدعم اللامحدود من القيادة الرشيدة، لم تكتفِ قطر بخفض نسبة الأمية لديها إلى ما يقارب الصفر (0.95%)، بل أطلقت مبادرات عالمية طموحة تهدف إلى توفير التعليم لملايين الأطفال حول العالم، مثل مبادرات مؤسسة “التعليم فوق الجميع” (“علّم طفلًا”، “الفاخورة”، “روتا”). هذه الجهود لا تقتصر على بناء المدارس، بل تمتد إلى تطوير المناهج وتبادل الخبرات لضمان تعليم نوعي ومستدام.

محو الأمية كفعل مقاومة من أجل مستقبل إنساني
في اليوم الدولي لمحو الأمية 2025، نقف أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها: إن محو الأمية في شكله الجديد لم يعد مجرد حق من حقوق الإنسان، بل أصبح فعل مقاومة. مقاومة ضد التهميش، ومقاومة ضد التضليل، ومقاومة ضد السطحية الفكرية التي يفرضها الإيقاع المتسارع للعصر الرقمي.
إن تعليم فرد القراءة والكتابة اليوم يعني منحه مفتاحًا لعالمين: عالم المعرفة الإنسانية الممتد عبر آلاف السنين، وعالم الفرص الرقمية الذي يشكل مستقبلنا. إنه يعني تمكينه من المشاركة في الحوار العالمي، وتحسين ظروفه الصحية والاقتصادية، والأهم من ذلك، منحه القدرة على التفكير النقدي واتخاذ قرارات واعية بشأن حياته ومجتمعه.
المعركة طويلة ومعقدة، وتتطلب تضافر جهود الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص والأفراد. يجب أن نعمل معًا لضمان ألا يترك أحد خلف الركب، وأن تصبح التكنولوجيا أداة للتمكين لا للتهميش، وأن يبقى الإنسان، بوعيه وقدرته على النقد، هو سيد مصيره في هذا العالم الرقمي الجديد.