ومن عجيب بديع متشابه نظم القرآن وفرائده لمتدبر البيان، أنه أتى بوصف ( المنشآت) في آية الرحمن، إذ قال (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)
ولم يذكر هذا الوصف في الشورى إذ قال (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)
وهي من بديع متشابه النظم الذي فات علماء المتشابه الوقوف عليها، فلم يقف عندها الخطيب الإسكافي في الدرة، ولا الكرماني في البرهان، ولا ابن الزبير الغرناطي في ملاك التأويل ،ولا غيرهم من علماء متشابه القرآن.. !
وعند إمعان النظر وإنعام الفكر نجد أن آية الشورى السابقة في الترتيب المصحفي قد ذكرت وصف السفن في مرحلة بدائية من مراحلها وأشار إلى منته وفضله في أن الريح هي المحركة لها فلو سكنت ركدت، وعد ذلك آية من آياته.
ثم انتقل البيان في آية الرحمن إلى مرحلة متقدمة في الصنع والإنشاء لهذه السفن يسفر عنها الزمان وهي من دلائل إعجاز القرآن!
فلاتحتاج إلى الريح لتحريكها وإنما لها محركات خاصة بإنشاء خاص؛ فلم يذكر الريح هنا، وأشار إلى الإنشاء في هذا المقام ؛ ولكيلا ينصرف الذهن إلى استغناء الإنسان بما صنع، فامتن عليه بمنة الدلالة على إنشائها على هذا النحو، فقال ( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ )
فله المنة والفضل على سبيل الحصر والاختصاص، فهو الذي هداهم وألهمهم ذلك.
فسبحان من أحكم كتابه بدقائق البيان ..!