أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين ومتوحدين، وليسوا كذلك في الحقيقة، فهم مختلفون غاية الاختلاف. نقرأ هذه الآية وننزلها مباشرة على أصحاب الديانات الأخرى، ونرى أن بأسهم بينهم شديد بسبب العداوة والبغضاء الناتجة عن تفرّقهم. والآيةُ وفق مصادر التفسير حكايةٌ عن حال المنافقين وأهل الكتاب، أو المشركين وأهل الكتاب، أو اليهود والنصارى، أو بين اليهود أنفسهم (بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة).

ومثل هذه الآية المبيّنة عداوةَ الفِرق الدينية والمذاهب المختلفة في القرآن الكريم كثيرة، منها قولُه تعالى في بيان العداوة والبغضاء بين الفرق النصرانية {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

وقوله تعالى في بيان العداوة والبغضاء بين الفرق اليهودية {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

وفي المشركين وغيرهم من أصحاب الديانات: ” إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ”.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل غدا بأس المسلمين بعضهم مع بعض شديدا أكثر من بأس الديانات الأخرى؟ وهل تحسب المسلمين جميعا وقلوبهم شتى أكثر من شتات قلوب أصحاب الديانات الأخرى؟ وهل وقع المسلمون في مغبّة ما حكى القرآن عن الأديان الأخرى، أوَلَم يعتبر المسلمون بقصص القرآن عن اليهودية والنصرانية وغيرها ؟

حال المسلمين من الآية

نزلت الآية في الأديان الأخرى يومَ كانت السمة الأولى لحال المسلمين قوله تعالى: “كنتم خير أمة” و”إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً” إلى جانب آيات الحض على الوحدة، كقوله تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.” ومنه: “وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ” ومثله “وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ ” ونحوه: ” وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”. لكن لعل الواقع اليوم يفرض علينا الإقرار بوجود دخان الفرقة والشحناء والبغضاء، إن لم تكن النار قد تأججت، حتى ليكاد يكون بأس المسلمين فيما بينم أشد من بأس وعداة غير المسلم للمسلم!

التغيّر الفظيع عن مسار وحدة الأمة

لماذا لم يعد المسلمون أمة واحدة كما كانوا زمن النبي خاصة؟ لعل الجواب المتبادر إلى الذهن هو أنهم غيروا وبدلوا وخرجوا عن تعاليم الإسلام! لكن الجواب هو فقدان المرجعية العليا والمتحدث الوحيد باسم الإسلام، وبالتالي أصبحت هناك فرصة للترويج لأكثر من إسلام أو لأكثر من فهمٍ للإسلام؛ دون فصل القول النهائي بين الآراء التي تدعي نسبتها إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة!

كان عليه الصلاة والسلام المرجع الأوحد للإسلام، وعمدة مرجعيته الوحي، إذ كان لا ينطق عن الهوى. نتج عن ذلك تسليمُ الصحابة له عليه السلام واعتبار ما صدر عنه الإسلامَ. وعلى فرض وجود رأيين حول قضية إسلامية ما في زمنه عليه السلام فإنه ينتهي في النهاية إلى رأي واحد متمثل في بيان النبي عليه السلام بأن الأمر هكذا، أو بأن كلا الأمرين صحيح! ومن هنا لا مجال للنزاع في رأيين حول الشيء الواحد في الإسلام بوجوده عليه السلام، ولا مجال للقول في المسألة قولان، أو ذهبت الأشاعرة، ورأت المعتزلة وقال أصحاب الحديث ورجح المتكلمون!

نماذج من تباين الرؤى في زمنه عليه السلام

والنماذج الآتية مبينة لذلك:

– لما أسلم عمر رضي الله عنه قال: “ألسنا على حق، وأليسوا على الباطل.. فلِم نرضى الدنية في ديننا؟!” وكان الجواب: “لم نؤمر بذلك يا عمر!” ومن هنا لا مجال لرأي عمر، لأن النبي المرجع النهائي.

– عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ آيَةً وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ خِلَافَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ وَلَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا. مع الخلاف القائم في القراءة قال عليه السلام: “لا تختلفوا”، وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم ينه عن وجود رأيين، الذي هو تحصيل حاصل، إنما نهى من أن يؤدي وجود أكثر من رأي إلى نزاع وصراع وتصنيفات!

– أراد بعض الصحابة أن ينفذ عقوبة من يستحقها برأيهم: “دعني أضرب عنق هذا المنافق!” لكن النبي بين أن ذاك ليس هو التدين!

– عدم تعنيف النبي لمن صلى العصر في بني قريظة ولمن صلى في الطريق، وإلا لصح دوام الرأيين والخلاف حوله!

– تحرّج الصحابة من الوضوء من ماء البحر وهم في سفر، فانتهت المسألة بقوله: “هو الطهور ماؤه الحل ميتته”

– بيان النبي عليه السلام التدين الصحيح للنفر الثلاثة وتصحيح مفهومهم عن التدين بقوله: “أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم الليل وأنام، ومن رغب عن سنتي فليس مني.” وسنة النبي هو الإسلام.

مصير الأمر المختلف فيه في زمن النبي، ومثيله بعد وفاته عليه السلام

الشاهد من هذه النماذج الخلافية وجود أكثر من رأي نحو ما هو “التدين” في حياة النبي نتيجة فهم معين للإسلام. لكن قُطع دابر الأمر بكلمة من النبي، فكان للمرجعية دورٌ كبير في وحدة المسلمين، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم انعدم وجود مرجعية حاسمة وفاصلة بين قولين، اللهم إلا قوة السلطة والجماعة أو الاجتهاد قياسا لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. لكن عملية التوجُّه نحو “ما أنا عليه وأصحابي”، “سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي” يتم بعد وفاته عليه السلام بأحد أمرين:

– بالاجتهاد: وقد يؤدي هذا الاجتهاد إلى تباين رؤى دون مرجعية فاصلة كالتي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الاختلاف قد يكون في واقع جديد وطارئ،لم يك له مثيل أيام النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: تعيين خليفة الرسول، ومقاتلة أهل الردة، وجمع القرآن، أو تغيير ما كان سائدا في زمن النبي: زيادة الأذان الثاني يوم الجمعة، وجمع الناس على إمام واحد في التراويح، وهل العمل من الإيمان، وحكم مرتكب الكبيرة، ودور اللغة في فهم الصفات الخبرية كما في حديث: “ينزل ربنا كل ليلة..، ووقف حد السرقة عام المجاعة، وإيقاف سهم المؤلفة.

– قوة السلطة والجماعة: تحل القضايا التي فيها أكثر من رأي بالإمام “المقاصد والمصلحة والسياسة الشرعية وروح الشريعة” ويكون التدين ما تبناه الخليفة من رأي وتبعه الجماعة بحق، وعليه فالجماعة أو السواد الأعظم يكون ضابطا ومعيارا أحيانا، مع احتمال تحويل رأي الأقلية إلى رأي جماعة يوماً من الأيام.