في الثاني فبراير من العام 871م الموافق 8 ربيع الأول 257 هـ سقطت إمارة “باري” Bari التي قامت في قلب إيطاليا، واستمرت خمسة وعشرين عاما، خاضت فيها عشرات المعارك مع القوى المسيحية من أجل تثبيت حضور المسلمين ، فمن النادر أن تجد ذكراً لإمارة باري عند المؤرخين المسلمين، وقد اهتم برسم ملامح تاريخها المؤرخ الإيطالي جوزيي موسكا Giosuè Musca في كتابه إمارة باري “L’emirato di Bari, 847–871” الصادر عام 1964.
يعتبر المؤرخ الإيطالي الراحل “جوزيي موسكا” أستاذ التاريخ بجامعة باري الإيطالية، من أهم مؤرخي العصور الوسطي، ومن المهتمين بالتاريخ الإسلامي والعلاقة الإسلامية- المسيحية، وله كتب في هذا المجال منها كتاب ” شارلمان وهارون الرشيد”، لكن ما يميز كتاب “موسكا” عن “باري” أنه ربما يكون الكتاب الوحيد الذي تكلم عن تلك الإمارة وسعى لنسج تفاصيل ربع قرن من الحضور العربي الإسلامي بعدما ضاعت التفاصيل مع عمليات التصفية والإبادة التي ارتكبت ضد المسلمين في تلك الإمارة.
تحكي قصة نشأة وانهيار تلك الإمارة المنسية قدرة الإسلام على القفز لأراض بعيدة، ونثر بذور التوحيد فيها، كما تحكي أن صراعات الداخل على السلطة، والتطاحن العرقي والمذهبي يعصف بقوة المسلمين ويقتلع جذورهم ويقذفها في عالم النسيان.
البر الطويل
مع ضعف السلطة المركزية للدولة العباسية، وانشغالها بصراعها مع مخالفيها في الداخل؛ تراجعت حركة الفتوح الإسلامية التي كانت متوهجة في الدولة الأموية، لكن هذا الانشغال لم يضعف الحماسة الدينية لبعض الدول التي حصلت على استقلال في قرارها مع تبعية شكلية للخليفة العباسي في بغداد، ومنها “دولة الأغالبة” في تونس التي وجهت حملاتها للجزر الموجودة في البحر المتوسط واستطاعت أن تفتح أكبرها وعي “جزيرة صقلية” بقيادة الفقيه المجاهد “أسد بن الفرات”([1]).
وبعد أن استتب الأمر للمسلمين في كل من صقلية ، اتجهت الفتوحات إلى الجنوب الإيطالي أملًا في الوصول إلى روما يومًا ما، استولوا المسلمون على عدة مناطق في الجنوب الإيطالي، التي كانوا يسمونها البر الطويل أو الأرض الكبيرة، وأقاموا التحالفات السياسية، واستثمروا الصراعات في الإمارات المسيحية ليثبتوا الوجود الإسلامي في تلك الأراضي الجديدة، وساعدهم على ذلك تنامي قدراتهم البحرية، وابتكارهم لما يسمى وقتها “الحراقات” وهي مادة مشتعلة كانت تقذف على السفن فتشعل فيها النيران، وكان انتصار المسلمين على إمارة “البندقية” الشهيرة، ونجاحهم في بناء تحالف مع إمارة “نابولي” الواقعة على الساحل الغربي لإيطاليا، يوحي بأن المسلمين أتوا للاستقرار في تلك البلاد البعيدة، وفي تلك الأثناء تم توجيه إحدى تلك الحملات إلى “باري”([2] ) التي تسميها مصادر التاريخ الإسلامي “بارة”.
خلفون..الفاتح
كان فتح المسلمين لمدينة “تارنتو” عام (847م) مغريا لأحد الأمراء ويسمى “خلفون”([3]) للقيام بمغامرة لفتح “باري”، حيث قاد جيشا من العرب والبربر للسيطرة على تلك المدينة، دون أي تنسيق مع العباسيين أو الأغالبة الذين كانوا يحكمون صقلية في ذلك الوقت.
ورغم أن محاولة الاستيلاء على المدينة المحصنة لم تفلح في بداية الأمر، لكن وسط ضغط الحصار الإسلامي القوي، نفدت موارد المدينة، واشتدت وطأة الجوع والحرمان على سكانها، اكتشف المسلمون ثغرة في سورها، فدخل منها خلفون وجنوده وفرضوا سيطرتهم على المدينة، ونصب خلفون نفسه واليًا على “باري”، ليتحول الجنوب الإيطالي إلى مسرح لحروب مستمرة لوقف طموحات المسلمين، وكان على “باري” أن تستعد عسكريا باعتبارها خط المواجهة الأول.
ومنذ دخول “خلفون” للمدينة اهتم بتوفير احتياجات أهلها المعيشية، ونهض بزراعتها بمحاصيل لم تكن معروفة فيها: كالقطن والأرز وقصب السكر والنخيل، واهتم بتوفير نظام جيد للري مستفيدا من خبرة الأغالبة في تصميم النواعير (السواقي) الضخمة، كما عمل على بناء توافقات مجتمعية بين العناصر الأربعة المكونة للمدينة من العرب والبربر واليهود والمسيحيين، لكن يبدو أن الخلافات العميقة والقديمة بين العرب والبربر حالت دون ذلك، فقُتل خلفون بعدما حكم الجزيرة قرابة الأربع سنوات من ( 232م= 847م) إلى (237 هـ =852 م)، وتولى مكانه أحد زعماء الجند وهو “مفرق بن سلام”.
البحث عن شرعية
سعى “مفرق بن سلام” للحصول على شرعية يثبت بها حكمه الجديد، فأرسل إلى الخلافة العباسية في بغداد لتقره على الإمارة في “باري”، كما بنى مسجدا ضخما في وسط المدينة([4])، وعلى الجانب العسكري نشط في العمليات الحربية لتوسيع رقعة إمارته على حساب جيرانه، وذكرت كتب التاريخ أنه فتح (24) حصنا واستولى عليها، وانتصر على القوات المسيحية من اللومبارديين والصقالبة عام (855م) وتحصل على غنائم كثيرة أوجدت حالة ازدهار تجاري في المدينة، وصارت “باري” مأوى للمجاهدين الراغبين في التوسع في الجنوب الإيطالي.
ورغم هذا الازدهار والانتصارات إلا عوامل التطاحن المجتمعي ونمو العصبيات، أشعل نيران الفتنة، فُقتل “مفرق بن سلام” بعدما حكم “باري”من (237هـ= 853م) إلى (241 هـ=856 م) ، ونصب البربر مكانه “سودان الماوري”.
الماوري..والنهاية
حاول “سودان الماوري” منذ البداية أن يظهر عدالته بعدم التفريق بين العرب والبربر، وذلك من خلال توزيع المغانم والأراضي والمناصب المهمة بالتساوي بينهم، كما عقد هدنة عسكرية مع بعض جيرانه المسيحيين، واستولى على أراضي مدن مسيحية أخرى مثل: كابوا وكانوزا وليبوريا، وحاول فتح مدينة “نابولي”، واستطاع الانتصار على معارضيه في إماراته، وفي تلك الأثناء اعترفت الخلافة العباسية بشرعيته عام (250هـ= 864م)، غير أن الإمبراطور الروماني “لودفيك الثاني”، وملك إيطاليا لويس الثاني الكارولنجي شنا حملات عسكرية متتالية على “باري” للسيطرة عليها، لكنها فشلت نظرا لسيطرة المسلمين على المسالك البحرية مما تطلب من الايطاليين أسطولا كبيرا لم يكونوا يمتلكوه، ومع استعانة التحالف المسيحي بمرتزقة من الصقالبة والكروات وصربيا والجرمانيين استطاعوا دخول “باري” بعد أربع سنوات من الحصار في يوم الجمعة الثاني من فبراير سنة 871م الموافق 8 ربيع الأول 257 هـ ، وأمر الإمبراطور بذبح جميع المسلمين فيها، أما “سودان” فتم تعذيبه حتى الموت بعدما حكم “باري” خمسة عشر عاما، لتنتهي بذلك تلك الإمارة المسلمة التي استمرت خمسة وعشرين عاما في إيطاليا.
[1] ) فتح الأغالبة صقلية في التاسع من رمضان سنة 212هـ، بقيادة الفقيه أسد بن الفرات، بعد ما يقرب من سبعة عشر شهرا من عملياتهم الحربية .
[2] ) مدينة باري هي مدينة إيطاليّة تقع جنوب البلاد، وهي عاصمة لإقليم بوليا ومقاطعة باري، وتبلغ مساحتها 116 كم²، فيما يبلغ عدد سكانها 320,475 نسمة، وذلك بحسب الإحصائيات الأخيرة لعام 2010 ميلادي، وأهم ما يُميز مدينة باري أنها ميناء بحري ومركز تجاري، كما دُفن فيها القديس نقولا، مما رفع الأهميّة الدينيّة لكنيستها، لُتصبح مقصداً للطائفة الأرثوذكسيّة في إيطاليا.
[3] ) اختلف المؤرخون في شخصية “خلفون” فقيل أنه قائد عربي من عشائر قبيلة ربيعة، وقيل إنه بربري من شمال إفريقية، وقيل إنه من مسلمي إيطاليا
[4] ) تشير بعض المصادر الإيطالية إلى أن موقع المسجد هو الكاتدرائية الحالية للمدينة والتي تقع وسط مركز المدينة التاريخي.