تحتفل جموع من المسلمين بالمولد النبوي كل عام هجري في شهر ربيع الأول، ويختلف شكل الاحتفال من بلد لآخر، بل نجد في البلد الواحد أشكالا متعددة للاحتفال بالمولد النبوي.
تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي
يذكر الإمام أبو شامة أن أول من احتفل بالمولد النبوي بشكل منظم هو معين الدين الإربلي المعروف بالملاء شيخ الموصل في عصره، ( ت: 570هـ) وقيل: إنه كان يحتفل بها سنويا بحضور الشعراء والأمراء في زاويته.
ويذكر الإمام السيوطي أن أول من احتفل بالمولد النبوي هو حاكم أربيل ( شمال العراق) ابن بكتكين.
ولكن الأشهر هو عناية الدولة العبيدية الشهيرة بالفاطمية بالمولد النبوي، حيث كانت تحمل صواني الحلوى إلى الجامع الأزهر، ثم إلى قصر الخلافة حيث تلقى الخطب ويدعى للخليفة. كما كانت الدولة الأيوبية تحتفل بالمولد النبوي وينفق فيها أموال طائلة على الفقراء وغيرهم، ويجتمع الصوفية والفقهاء والوعاظ والشعراء، فتنحر الإبل والبقر والغنم وتطبخ ويأكل الناس.
أما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها
واتخذ الاحتفال في الخلافة العثمانية شكلا آخر، حيث كان يحتفل بالمولد كل عام في مسجد معين، ولما كان عهد السلطان عبد الحميد الثاني اقتصره على الجامع الحميدي، ويخرج العلماء والناس في ليلة الثاني عشر من ربيع فيدخلون المسجد، مع السلطان، فيقرؤون القرآن ثم يقرؤون قصة مولد النبي ثم كتاب دلائل الخيرات في الصلاة على النبي ثم ينتظم بعض المشايخ في حلقات الذكر فينشد المنشدون وترتفع الأصوات بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم في صبيحة يوم 12 من ربيع الأول يجيء كبار الدولة لتهنئة السلطان.
وفي المغرب الأقصى اتخذ الاحتفال شكلا قريبا من احتفال الخلافة العثمانية، حيث يجمع المؤذنون ويخرج السلطان فجر يوم المولد فيصلي بالناس ثم يجلس على أريكته ويدخل الناس حسب طبقاتهم، ثم يتقدم أحد الوعاظ لسرد جملة من فضائل النبي ومعجزاته، ثم يقوم الشعراء والمداح، فإن انتهوا، بسطت موائد الطعام للناس.
صور الاحتفال بالمولد النبوي
تختلف صور الاحتفال بالمولد النبوي، وذلك على النحو التالي:
الصورة الأولى: هو ما يفعله بعض الجهلة من العوام من اختلاط الرجال بالنساء ورفع الشارات والغناء وغيرها مما لا علاقة له بالمولد النبوي، إلا الاجتماع والرقص والأكل والشرب.
وهذه الصورة لا يشك عاقل فضلا عن أن يكون عالما في حرمتها، وأنها من المنكرات التي دخلت بلاد المسلمين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له: “فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق”.
الصورة الثانية: هو الاحتفال بتلاوة القرآن وذكر فضائل النبي ومولده، وإنشاد بعض الشعر في مدحه عليه الصلاة والسلام.
ليس كل محدث حراما، بل قد يكون مستحبا. وأنه لا تكره البدع إلا إذا راغمت السنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره
وهذه الصورة الثانية هي التي نقل الاختلاف فيها بين أهل العلم، على رأيين:
– جواز الاحتفال بالمولد النبوي، وهو ما ذهب إليه السيوطي، وابن الجوزي، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، وغيرهم من المتقدمين، واختار هذا الراي من المتأخرين: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ حسنين محمد مخلوف شيخ الأزهر، والشيخ يوسف القرضاوي، والدكتور أحمد الريسوني وغيرهم.
– الرأي الثاني: الاحتفال بالمولد النبوي بدعة منكرة، وحرام في دين الله تعالى. وقال بهذا الرأي: الإمام ابن تيمية الحراني، والإمام الشاطبي، والإمام تاج الدين الفاكهاني، ومن المتأخرين: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ الألباني وغيرهم.
– اعتمد القائلون بالجواز: بما ثبت في الصحيحين من أن النبيَّ ـ ﷺ ـ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى.
وأن الاحتفال بالمولد النبوي وإن كان بدعة لم توجد في العصور الأولى؛ فإنه من البدعة الحسنة، وقد نص الحديث على وجود بدعة حسنة، وقال عمر: نعمت البدعة هي، فليس كل محدث حراما، بل قد يكون مستحبا. وأنه لا تكره البدع إلا إذا راغمت السنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره.
كذلك أن الأعمال صحتها وفسادها موقوف على النية، ولا شك أن نية شكر الله تعالى على ميلاد النبي من النيات المستحسنة.
كما استدل هذا الفريق أن إظهار الفرح والسرور الأصل فيه أنه مباح، فكيف يكون إظهار الفرح والسرور لمولد سيد البشر ممنوعا؟! بل إظهاره مشعر بمحبته ﷺ وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكرا لله على نعمة الرسالة.
لو كان هذا خيراً محضاً، أو راجحاً؛ لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله ﷺ وتعظيماً له منا
– أما المذهب الآخر الذي يرى أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة محرمة، فاستند إلى ما قاله الإمام ابن تيمية – رحمه الله- من كون الاحتفال بالمولد النبوي بدعة لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه”، وقال: “ولو كان هذا خيراً محضاً، أو راجحاً؛ لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله ﷺ وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص.
وأن ما يفعله المحتفلون من أعمال صالحة كقراءة القرآن وذكر فضائل النبي ﷺ هو مشروع في ذاته، لكن نيته غير صحيحة، ألا ترى أن الصلاة مشروعة، لكنها قد تكون بدعة إن لم تؤت على الوجه الصحيح، وفي الحديث : “كل بدعة ضلالة”.
ويشتمل الاحتفال كذلك على مخالفات فضلا عن بدعيته، من استعمال الأغاني وآلات الطرب، وقلة احترام كتاب الله حيث يجمعون بين تلاوة القرآن وبين الغناء.
كما أنه لم يقم الدليل الشرعي على تفضيل يوم المولد، ثم إن يوم المولد هو يوم الوفاة.
تلك كانت أدلة الفريقين، ممن يرى أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة منكرة، وبين من يرى أنه جائز، لكن أحدا من الفقهاء لم يقل بجواز ما تقوم به غالب الاحتفالات التي تحصل في بلاد المسلمين الآن من اختلاط الرجال بالنساء، وما تقوم بعض الطرق المنسوبة للصوفية من الاجتماع في الأماكن العامة، ونصب الفرش، والاحتفال بالرقص والغناء وارتكاب المحرمات، وما يحصل عن هذا من المفاسد الدينية والدنيوية، فإن كل ذلك لا يقول فقيه معتبر بحله أبدا.
أما الاقتصار بتذكير الناس بالسيرة النبوية والهدي النبوي من أخلاقه وسلوكه وفضائله وشمائله، وتذكير الناس بهدي نبيهم ﷺ، فذلك هو الذي يكون محل خلاف بين الفقهاء، وإن كان الأصل فيه أنه مشروع ومندوب إليه، لكن التذكير به في هذا اليوم تحديدا هو محل الخلاف بين الفقهاء، وكما قرر الفقهاء في قواعدهم:” لا ينكر المختلف فيه، إنما ينكر المتفق عليه”، المهم في هذا أن نمنع البدع المتفق على تحريمها، وأن نحاربها، وأن نبين خطأها، ثم بعد ذلك يسعنا الاختلاف فيما هو مختلف فيه.