من أعظم مقاصد الرسالات السماوية أن تخرج الناس من ظلمات الشرك والشر إلى نور التوحيد والخير، وأن تذكرهم بالأيام الجليلة، كليلة القدر وتبيان بركات ليلة القدر، قال الله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (إبراهيم:5).
وجعل القرآن من صفات الكفار أنهم لا يبالون بأيام الله ولا يخافونها {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الجاثية:14).
وقد ذكرنا القرآن بأيام نعم أو نقم كثيرة، ومن أيام النعم التي احتفى بها القرآن ليلة نزول القرآن نفسه، التي وصفها القرآن بأنها ليلة القدر، وتسميتها بذلك لشرفها أو لتقدير الأمور فيها، كما وصفها بأنها ليلة مباركة، وهذا الوصف هو الأصل للوصف الأول، فهي ليلة الشرف بما أعطاها الله من البركة، وهي ليلة الحكم والتقدير الحكيم للأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة.
وشاء الله أن يعرفنا بها ببركاتها دون تعيين وقتها حتى نجتهد في العبادة والعمل الصالح، وذكر تلك البركات والفضائل بعد قوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) وكلمة (ما أدراك ما كذا) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه. وفي الحديث “إني أُريتُ ليلةَ القدرِ. وإني نسيتها (أو أُنسيتها) فالتمسوها في العشر الأواخر من كل وترٍ” متفق عليه،
وعن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله ﷺ ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: “خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة” رواه البخاري.
ومن بركات هذه الليلة الجليلة:
1– بركة نزول القرآن : من بركات ليلة القدر نزول القرآن العظيم فيها جملة إلى السماء الدنيا، ثم نزوله مفرقا على النبي ﷺ على مدى ثلاث وعشرين سنة أو ابتدىء فيها إنزاله على التفسير الآخر. وهذه أعظم بركات هذه الليلة المباركة. وهي التي جاءت في فاتحة سورة القدر {إِنَّاأَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِٱلْقَدْرِ}،
وفي سورة الدخان {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}
وفي سورة البقرة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (الآية: 185)،
بل إن نزول الكتب السماوية كان في رمضان ففي الحديث “نزَلَتْ صُحُفُ إبراهيمَ أوَّلَ ليلةٍ مِن شهرِ رمَضانَ وأُنزِلَتِ التَّوراةُ لِسِتٍّ مضَيْنَ مِن رمَضانَ وأُنزِل الإنجيلُ لثلاثَ عَشْرةَ مَضَتْ مِن رمَضانَ وأُنزِل الزَّبُورُ لِثَمانَ عَشْرةَ خلَتْ مِن رمَضانَ وأُنزِل القُرآنُ لأربعٍ وعِشرينَ خلَتْ مِن رمَضانَ” رواه الطبراني وحسنه الألباني.
وفي الآيات السابقة بيان أن القرآن أنزله الله تعالى لمقصد عظيم وهو أن يكون (رحمة من ربك) و(هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)، ولولا هذا القرآن وتلك الكتب المنزلة لما كان الناس في رحمة وهدى، وانظر كيف وصفه منزله تبارك وتعالى بأنه هدى وبينات من الهدى والفرقان، فهو ليس هدى فقط بل هو بيِّن في هداه وتفريقه بين الحق والباطل، “والتقدير كأنه قيل: هذا هدى، وهذا بين من الهدى، وهذا بينات من الهدى، ولا شك أن هذا غاية المبالغات” كما قال الرازي. وهذه الآية قريبة من قوله تعالى أو لعلها نفسها (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1).
ولهذا وصف الله تعالى ليلة نزول القرآن بأنها ذات قدر أي شأن عظيم ومباركة؛ “فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية والدنيوية، أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقَسْما لنعمة وفصلا للأقضية” (تفسير البيضاوي).
وهذا تعليم للمسلمين أن يعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نعم الله عليهم، وهو مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى منَّ الله على موسى قال تعالى: (وذكرهم بأيام الله)، فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن (تفسير ابن عاشور).
2. بركة مضاعفة أجر العمل : ومن بركات ليلة القدر أن القرآن جاء صريحا قاطعا بأن (ليلة القدر خير من ألف شهر)، فالعمل الصالح أبرك وأعظم ما يكون في ليلة القدر، وألف شهر تساوي حوالي 83 سنة و3 أشهر، وإذا كانت الليلة فيها حوالي تسع ساعات كما الحال في رمضاننا هذا حسب توقيت مكة المكرمة، فتكون الساعة الواحدة مساوية لحوالي 9 سنوات، والدقيقة الواحدة تعدل حوالي 1.5 شهر. وقد بينت السنة ثمرة هذه البركة في مضاعفة الأجور، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: “مَن قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه” متفق عليه.
3. بركة تقدير المقادير : وصف القرآن ليلة القدر بأنه (يفرق فيها كل أمر حكيم أمرا من عندنا. إنا كنا مرسلين رحمة من ربك)، وقال سبحانه أيضا (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) أي بكل أمر مما قدره الله تعالى لبني آدم في عامهم القابل، أي خطة السنة بكاملها.
وقدَر الله سبحانه وتعالى أربع مراتب:
– المرتبة الأولى: علم الله السابق بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً.
–المرتبة الثانية: كتابة كل ما هو كائن في صحف عنده فوق عرشه.
–المرتبة الثالثة: توزيع ما هو كائن على الزمن، وهذه المرتبة ينزلها الله في ليلة القدر، ينزل فيها ما هو كائن في السنة التي هي فيها، ففيها يفرق أي يفصل كل أمر حكيم أي أمر قد أحكمه الله تعالى من تدبيره لعباده من الأرزاق والإماتة والإحياء والمطر وما يقع في السنة من الأعمال كلها ينزل ذلك في ليلة القدر وهي خطة السنة بكاملها.
– المرتبة الرابعة : تنفيذ ذلك على وفق علم الله سبحانه وتعالى، فهذه الآية مثبتة لمرتبة من مراتب قدر الله التي يجب الإيمان بها. (الحسن الددو).
4. بركة نزول الملائكة وجبريل : أخبر الله تعالى بأن ليلة القدر (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر)، أي : يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له (ابن كثير).
وقال ابن عاشور “وفي هذا أصل لإقامة المواكب لإحياء ذكرى أيام مجد الإسلام وفضله، وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي أن لا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها”.
5. بركة السلام : ليلة القدر هي (سلام حتى مطلع الفجر)، فأخبر هنا أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر، فهذه بشارة. ويطلق السلام على التحية والمدحة، وفسرالسلام بالخير؛ والمعنيان حاصلان في هذه الآية (تفسير ابن عاشور)
خلاصة القول
إن ليلة القدر لا نظير لها في الإسلام بركة وأجرا وقدرا، وهكذا ينبغي أن تكون عند المسلم لا نظير لها اجتهادا وإنابة وعملا. ففي الحديث (إنَّ هذا الشهرَ قد حضركم، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمها فقد حُرِمَ الخيرَ كلَّه، ولايُحرَمَ خيرُها إلا محرومٌ) والعياذ بالله.
ومن علامات نيل بركات رمضان وليلة القدر فيه صلاح الحال بعد رمضان، قال ابن عاشور في تفسيره: وكم لها من بركات للمسلمين في دينهم، ولعل تلك البركة تسري إلى شؤونهم الصالحة من أمور دنياهم.