غيب الموت بالأمس الباحث والمؤرخ المخضرم برنارد لويس عن عمر يناهز المائة وعاما، وهو من أبرز المفكرين الذين أسهموا في تشكيل رؤية السياسيين الغربيين بشأن الإسلام والمسلمين، وبسبب دعمه المتواصل للإمبريالية الغربية ووضعه مشروعه المعرفي في خدمة أهدافها وصفه إدوارد سعيد بأنه منظر ومدافع الامبريالية.
السيرة الذاتية والأثار المعرفية
ولد المؤرخ الشهير في لندن في الحادي والثلاثين من مايو عام 1916، وهو ينتمي لأسرة بريطانية من أصول يهودية، شغف بدراسة التاريخ ونال درجة الدكتوراة في التاريخ الإسلامي عام 1939 من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) بجامعة لندن التي عين أستاذا بها، وخلال الحرب العالمية الثانية خدم بالجيش البريطاني والتحق بالمخابرات البريطانية كخبير لدراسات الشرق العربي قبيل أن ينتقل للعمل بوزارة الخارجية، وعلى الرغم من عودته للتدريس بالجامعة بعد انتهاء الحرب إلا أنه صلاته مع المخابرات لم تنقطع.
في أوائل السبعينات ومع تلاشي الإمبراطورية البريطانية في المنطقة أدرك لويس أن استقراره ببريطانيا لم يعد له ما يبرره فقرر الرحيل إلى الولايات المتحدة- ألا يعيد ذلك إلى الأذهان ذكرى انتقال مركز الحركة الصهيونية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية– وهناك حل في جامعة برينستون ثم جامعة كورنيل ووضع إمكانياته المعرفية في خدمة كلا من المشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، وتقديرا لخدماته حصل على الجنسية الأمريكية عام 1982، وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من العاملين الآن في حقل الدراسات الشرقية والإسلامية والذين يعملون كخبراء ومستشارين لأعضاء مجلس الأمن القومي والعاملين في وزارتي الخارجية والدفاع.
ولويس على صلة وثيقة بدوائر صنع القرار في واشنطن وتل أبيب، حيث عمل مستشاراً لعدد من رؤساء وزراء إسرائيل بدءا من غولدا مائير التي ذكرت أنه أحد كتابها المفضلين و دعته في احدى المرات لمنزلها تكريما لدعمه المتحمس لإسرائيل، وهو أحد واضعي أسس السياسة الأمريكية في العالم العربي، ويذكر أنه التقى الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه بعد أسبوع واحد فقط من تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وكانت رسالته موجزةة ومحددة لصناع القرار وهي “القسوة أو الخروج” أي إما أن تلجأ الولايات المتحدة لاستخدام العنف أو عليها أن تواجه شبح الخروج من العالم الإسلامي، ولذلك يعزا إلى أفكاره تلك النقلة النوعية في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة فهو من اقترح غزو العراق عسكرياً لغرس بذور الديمقراطية في العالم العربي.
واستنادا إلى دوره المؤثر في صنع القرار السياسي يصفه مارتن كرامر في موسوعته حول المؤرخون والكتابات التاريخية بأنه المؤرخ الأكثر نفوذا وتأثيرا بشأن الإسلام والشرق الأوسط في الغرب طيلة ستون عاما.
وضع لويس قرابة ثلاثين مؤلفا حول الإسلام أبرزها: أصول الإسماعيلية (1940)، ظهور تركيا الحديثة (1961)، الحشاشون: الطائفة الراديكالية في الإسلام (1967) والإسلام في التاريخ (1973)، وتلك الكتابات التاريخية الأولى رغم اختلافنا مع بعض نتائجها لا يعوزها الدقة والالتزام المنهجي، فقد كتبها باحث كان يبدو آنذاك واعدا أتقن ما لا يقل عن اثنتي عشر لغة شرقية مما أتاح له الإطلاع على المنتج المعرفي الشرقي عن كثب، في حين تأتي مؤلفاته الأخيرة أشبه بالمنشورات الدعائية منها للدراسات العلمية، تغلفها غلالة أكاديمية رقيقة لإضفاء بعض المصداقية عليها، ومن أمثلتها كتاب (أين الخطأ) الذي صدر في أعقاب هجوم الحادي من سبتمبر والذي نفد فور صدوره وأعيدت طباعته عدة مرات، وكتابه (أزمة الإسلام) الذي قوبل بذات الحفاوة، وقد تضمن الكتابان بعضا من آراء لويس حول الإسلام المعاصر والإرهاب وعلاقته بمفهوم الجهاد، وصعود الأصولية الدينية.
الجهاد والإرهاب: الالتباس المتعمد
درس لويس مفهوم الجهاد وعلاقته بالإرهاب المعاصر محاولا إيجاد رابط بين مفهومي الجهاد والإرهاب، وهي القضية التي أفرد لها كتابه (أزمة الإسلام) وهو يعتمد تعريفاً للجهاد يسمح بوجود هذا الخلط المفاهيمي- في حين يحجم عن تقديم تعريف مماثل للإرهاب- فيذهب إلى أنه عبر أربعة عشر قرنا انصرف مفهوم الجهاد إلى الكفاح المسلح والحربي دون الجهاد المعنوي، وأن العالم يتشكل وفق رؤية المسلمين إلى دار الإسلام ودار الحرب، ويفترض أن واجب الجهاد سيستمر إلى أن يعتنق العالم بأجمعه الإسلام أو يخضع للحكم الإسلامي.
وهو يطرح الجهاد على أنه المقابل الإسلامي للحروب الصليبية، فكلاهما شن ضد عدو كافر، لكنه ينبري مدافعا عن الحروب الصليبية فيصفها بأنها تمثل تطورا متأخرا للعالم المسيحي وابتعاداً عن جوهر المسيحية حيث لم تكن سوى ردة فعل على الهجمات الإسلامية، أما الجهاد فهو حاضر منذ بداية التاريخ الإسلامي وتحث عليه النصوص المقدسة.
وحسبما يرى لويس فقد انطلقت مسيرة الجهاد العربي على يد مؤسس الإسلام (النبي/ القيصر) الذي نجح في إقامة دولته وإمبراطوريته الخاصة، وبالتالي لم ينشئ كنيسة – أي مؤسسة دينية في مواجهة مؤسسة الدولة- ومنذ ذلك الحين أدرك المسلمون أن الحقيقة الدينية والسلطة السياسية مرتبطتين ارتباطا لا انفصام له، فقد أسبغت الأولى القدسية على الثانية وساندت الثانية الأولى، وموقف الإٍسلام من الدولة حسبما يرى لويس هو موقف براجماتي أقرب إلى الأسفار الأولى من العهد القديم منه إلى مواقف الأنبياء والأناجيل) ومن هنا لم يأمر الإسلام أتباعه بأن يديروا خدهم الآخر أو أن يحرثوا الأرض بسيوفهم.
ظاهرة الإرهاب والتفسيرات المغلوطة
تشكل هذه الخلفية التاريخية في اعتقاد لويس المعين الذي استقى منه الإرهابيون أفكارهم، فالإسلام في مخيلة هؤلاء لم يعرف طوال تاريخه إلا منطق القوة وليس له تجربة مماثلة لتجربة الاستضعاف والاضطهاد المسيحية، وبالتالي فمن الصعب قبول هؤلاء لهذا التراجع الإسلامي والخضوع للهيمنة الغربية، وبدورهم يعزون ذلك إلى تواطؤ النخب السياسية العربية (المرتدة) مع الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة (الكافرة) وهو ما يجعلهم إزاء عداء مزدوج يتوجب الجهاد ضده.
ويذهب لويس إلى أن الموجة الثورية الإسلامية لها مكونات عديدة، أحد هذه المكونات هو الشعور بالإذلال وهو شعور يتملك طائفة اعتادت أن تنظر لنفسها باعتبارها “الحارس الوحيد للحقيقة الإلهية” وفجأة تكتشف هيمنة الكفار على مقدراتها، يضاف لذلك الإحباط العميق الناجم عن إخفاق تجارب الإصلاح، وبعد ذلك يجيء مكون ثالث ضروري للانقضاض وهو الشعور بالقوة والثقة بالنفس وهما العنصران اللذان تكونا من امتلاك الثروة النفطية، وما تبعهما من تشكل عنصر جديد هو الازدراء للغرب الذي يعاني انحطاطا أخلاقيا واضحا.
ويتحفظ لويس على توصيف هذه الحركات بالأصولية المصطلح البروتستنتي الأمريكي الذي استخدم بقصد تمييز بعض الكنائس التي اتسمت بالتحرر الديني ونقد الأناجيل، وهو ما لا ينطبق على هذه الجماعات وأتباعها، وإزاء ذلك يقدم لنا تعريفه للأصوليين ” أنهم أولئك الذين يرون متاعب العالم الإسلامي في العصر الحاضر لا ترجع إلى عدم كفاية التحديث بل إلى الإفراط فيه” وهو يستخدم مصطلح التحديث في هذا السياق مرادفا للتغريب، وليس بمعنى التقانة التي لا يمكن أن تثير الاستياء من قبل هؤلاء أو غيرهم.
ويعزو لويس تصاعد الإرهاب إلى اختفاء الحليف، فقد اعتاد المسلمين في مراحل تاريخية سابقة الاعتماد على شريك قوي في مواجهة الهيمنة الغربية، فقد تحالفوا مع الرايخ الألماني ثم الاتحاد السوفيتي، وبعد سقوطه كان عليهم الاعتماد على قواهم الذاتية، وهي الحقيقة التي أدركها ابن لادن وخلفائه، وجاء تأسيس تنظيم القاعدة في ذات العام الذي سقط فيه الاتحاد السوفيتي تعبيرا عنها، وللإيهام بالتزامه نهج الموضوعية يناقش لويس شكوى المسلمين من إلصاق صفة الإسلامية بكل العمليات الإرهابية وتساؤلهم لماذا لا يوصف الإرهابيين الأيرلنديين والإرهاب الذي يمارسونه بأنه مسيحي، ويعلق أن الجواب بديهي وهو أنهم لا يصفون أنفسهم بذلك، ولا يجد لويس بدا من الإقرار أن الإرهابيين ليسوا ممثلين للإسلام، لكنه يذهب إلى أنهم شبوا في إطار الحضارة الإسلامية ويتوجب النظر إليهم في إطار سياقاتهم الدينية والثقافية الخاصة.
وإذا كان ما ذهب إليه لويس صحيحا من أن العلة الأساسية للعنف هي الحضارة الإسلامية فكيف يفسر إحجام سكان بعض الدول الإسلامية كنيجيريا وتركيا وبنجلاديش عن المشاركة في الممارسات الإرهابية، رغم أنها تمثل أضخم حشود إسلامية على مستوى العالم.