العشر الأواخر من رمضان هي خاتمة الشهر، وأفضل لياليه، وفيها ليلة القدر. وعمل المسلم في هذه الليالي دليل على مدى حرصه على اغتنام هذا الشهر. والسر في ذلك أنك أحد رجلين، إما رجل قد اغتنم الشهر من أوله بالمبادرة في الأعمال الصالحة، أو رجل قد فرط في ذلك كله.
فإن كنت من النوع الأول – وأسأل الله أن نكون كلنا كذلك – فأنت بحاجة إلى الثبات على العمل الصالح حتى آخر لحظة من الشهر؛ لأن الأعمال بخواتيمها، كما في القصة التي وقعت في زمن النبي -، فعن سهل ابن سعد الساعدي – رضي الله عنه – قال: نظر النبي – إلى رجل يقاتل المشركين وكان من أعظم المسلمين غناء عنهم، فقال: “من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا”، فتبعه رجل فلم يزل على ذلك حتى جرح فاستعجل الموت، فقال بذبابة سيفه فوضعه بين ثدييه فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه، فقال النبي : “إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار، وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها”. رواه البخاري
وإن كنت من النوع الثاني، فأنت بحاجة إلى استدراك ما فاتك من العمل، وهذا لا يكون إلا بالاجتهاد في العشر الأواخر.
لذا كان لزاما على المسلم أن يراعي في برنامجه في العشر الأواخر الإكثار من الطاعة وفق الهدي النبوي، والابتعاد عن الملهيات. وهذه بعض العناصر المعينة على ذلك:
أ- هدي النبي ﷺ في العشر الأواخر
دلت سيرة النبي ﷺ أنه كان يعامل العشر الأواخر معاملة مختلفة عن الأيام التي سبقتها، فكان مع إكثاره من الطاعة طوال الشهر، إلا أنه إذا دخل العشر شمر عن ساعد الجد والاجتهاد ليجود خاتمته فيها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي – إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. رواه البخاري. قال ابن حجر: ((وفي الحديث الحرص على مداومة القيام في العشر الأخير، إشارة على الحث على تجويد الخاتمة. ختم الله لنا بخير أمين)) (ابن حجر، فتح الباري ٤/ ٢٧٠)
ب-الاعتكاف في العشر الأواخر :
الاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله. وكان من هدي النبي ﷺ الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان. وإنما اعتكف النبي – العشر الأواخر ليجتهد في هذا الأيام وليدرك فضل قيام ليلة القدر.
عن أبي سلمة قال انطلقت إلى أبي سعيد الخدري فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث. فخرج فقال قلت: حدثني ما سمعت من النبي – في ليلة القدر. قال: اعتكف رسول الله ﷺ عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال إن الذي تطلب أمامك. فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال إن الذي تطلب أمامك. فقام النبي – خطيبا صبيحة عشرين من رمضان فقال: “من كان اعتكف مع النبي – فليرجع فإني أريت ليلة القدر، وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء”. وكان سقف المسجد جريد النخل وما نرى في السماء شيئا، فجاءت قزعة فأمطرنا فصلى بنا النبي – حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله – وأرنبته تصديق رؤياه. رواه البخاري
فليكن من برنامجك أخي المسلم أن تعتكف في العشر الأواخر لتتفرغ للعبادة والصلاة وقراءة القرآن والذكر في هذه الليالي الفاضلة، ولتدرك ليلة القدر فتقومها إيمانا واحتسابا.
ج- قيام ليلة القدر:
قيام ليلة القدر من أهدافك في رمضان، وحتى يتحقق لك هذا الهدف لابد من التنبه لهذه الحقائق:
النبي – ﷺ – أنسي متى ليلة القدر: كما في الحديث الذي مر قبل قليل. وكذلك حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – قال: ((أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر)). رواه مسلم.
ليلة القدر في العشر الأواخر: نستطيع أن نجزم أن ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، لما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، وهذا يعني أن التفريط في هذه العشر تفريط في تحري ليلة القدر، وأن الانشغال في هذه العشر بشواغل الدنيا من التسوق وغيرها، قد يفوت على الإنسان خيرا كثيرا كان بيده أن يكتسبه. ولذلك اعتكف رسول الله – في العشر الأواخر ليتفرغ تماما لنيل هذا الفضل في هذه الليالي. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله – يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. رواه البخاري ومسلم.
احرص على السبع البواقي من ليالي العشر: قد تكون ليلة القدر في السبع البواقي من رمضان، لذا كن حريصا على هذه السبع فلا تنشغل بشواغل الدنيا واحرص على قيام الليل فيها، لما ورد عن النبي – فيها من أحاديث منها:عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي – أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله -: “أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن ان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر”. رواه البخاري ومسلم.
احرص على الأوتار من ليالي العشر: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله – قال: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان”. رواه البخاري ومسلم
قد تكون ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين: دلت الأحاديث على احتمالية أن تكون ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين، ومن هذه الأحاديث:عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي – قال: “التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى. رواه البخاري.
قد تكون ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين: وقد تكون ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين لحديث عبدالله بن أنيس – رضي الله عنه أن رسول الله قال: “أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين” قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله – فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. رواه مسلم.
قد تكون ليلة القدر ليلة خمس وعشرين: قد تكون ليلة القدر ليلة خمس وعشرين لحديث أبي سعيد – رضي الله عنه – أن رسول الله – قال: “اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان؛ في تسع يبقين، وسبع يبقين، وخمس يبقين، وثلاث يبقين”. رواه أحمد.
قد تكون ليلة القدر ليلة سبع وعشرين: وقد تكون ليلة القدر ليلة سبع وعشرين لحديث معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – عن النبي – في ليلة القدر قال: “ليلة القدر ليلة سبع وعشرين”. رواه أبو داود.
قد تكون ليلة القدر ليلة تسع وعشرين: وقد تكون ليلة القدر ليلة تسع وعشرين، لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – قال في ليلة القدر: “إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى”. رواه أحمد
قد تكون ليلة القدر آخر ليلة من الشهر: كثيرا ما يفرط الناس في آخر ليلة من ليالي العشر، لاعتقادهم أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، في حين أن النبي – نبهنا على أنها قد تكون آخر ليلة من ليالي رمضان هي ليلة القدر، أي ليلة الثلاثين. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : “هي في العشر الأواخر، هي في تسع يمضين أو في سبع يبقين”. رواه البخاري.
وإذا مضت تسع ليالي من العشر، لم يبق إلا الليلة العاشرة، وهي آخر ليلة من الشهر.عن معاوية – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : “التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من رمضان”. رواه ابن نصر المروزي في قيام رمضان.
علامة ليلة القدر: بين لنا النبي – العلامة الدالة على ليلة القدر، وهي علامة تأتي بعد مضيها، ألا وهي طلوع الشمس صبيحتها بغير شعاع، فعن زر قال سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر. فقال أبي: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان – يحلف ما يستثني- ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله – بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها. رواه مسلم .
فهذه علامة ليلة القدر، أن تشرق الشمس من اليوم التالي بيضاء لا شعاع لها حتى ترتفع، وإنما جعلت العلامة بعدها ليفرح من اغتنمها، ويستدرك من فرط فيها.
والخلاصة أن ليلة القدر ليلة من ليالي العشر الأواخر، لا يعلمها قبل وقوعها إلا الله، ولذلك ليكن من برنامجك قيام العشر كلها لتدرك ليلة القدر بإذن الله.