تتوسع فكرة الطائفية والانتماء بين المسلمين يوما بعد يوم خصوصا أمام أحداث الفتن الراهنة التي تشهدها حلب السورية وعدد من البلدان الإسلامية، وتتخاذل شعوب المسلمين حكاما ومحكومين عن تحمل مسؤولية التقصير، حيث يبرئ كل ساحته ويرمي العتب على الآخر، كأن الدماء المهراقة تسيل في غير بلاد الإسلام، في الحين تتوحد قوى أعداء الإسلام والسنة، تستغل هذا التشرذم، وتنخر جسد الأمة بضرباتها شرقا وغربا، ونحن أمةَ الإسلام شغلنا بسؤال من يتحمل مسؤولية الحرب؟

أعتقد أن مشكلة التقسيم الجغرافي الاستعماري أثرت سلبا على أفكارنا، كما أضعفنا داء العصبية القومية، والوطنية، والحزبية إلى حد الوهن والزمانة، فلم نعد نذكر عقيدة الولاء والبراء إلا في أضيق صورها ومعانيها، وهو الولاء للوطن، أو الولاء للحركة، أو للفكرة .. لهذا يأتي هذا المقال يذكي معنى الانتماء الحقيقي للوطن من منظوره الإسلامي الفقهي، ويشخص عدوى القومية المتسربة إلى عقولنا.

أطلق مصطلح الوطن في الفكر الحديث على مكان إقامة الإنسان ومقره وإليه انتماؤه، ولد به أو لم يولد، ويتفق هذا المعنى مع ما جاء في المعاجم العربية، وعبر عنه التراث الإسلامي بلفظة دار وجمعها ديار، وبلد، وبيت، وغير ذلك من ألفاظ ذات الصلة.

جاء في وصف المهاجرين مثلا قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 8 – 9] حيث نسب لفظة (ديارهم) للمهاجرين إشارة إلى أوطانهم الأصلية والتغريب منها، ولفظة (الدار) إشعارا بمنازل الأنصار الذين ناصرووا المهاجرين بالإيواء والتضامن، وهي المدينة، فأتت الكلمة مفردة وجمعا في هذا الموضع.

وأقسم الله بالبلد وهو مكة، فقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد: 1-2] ويدل الإقسام بهذا البلد المعين لعظمته وحرمته، وجاء عند ابن عطية وكذا القرطبي وابن عاشور أن من معاني (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) أنه صلى الله عليه وسلم حالّ أي ساكن بهذا البلد، فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار كونه بلد محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا الاعتبار تشرفت مكة أولا بتحريم الله لها، ثم بسكنى الرسول بها، فإن المكان يشرف بأهله وسكانه.

كذلك استخدم القرآن لفظة “بيت” للدلالة على الوطن في قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) [الأنفال:5]  وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى وقعة بدر، فاستخدم البيت هنا للدلالة على وطنه المدينة حسب اختيار الجمهور.

هذه الألفاظ كلها لها معان دلالية على الوطن، سواء عن طريق إطلاق الجزء على الكل، جريا مع الاستعمال العرفي السائد، أو بإطلاق اللازم عل الملزوم لأن الوطن يتكون من بيوت، وديار، وبلاد، وقرى..

ولقد حرص الإسلام على مراعاة حب الإنسان وطنه وحنينه إليه، لموافاة دواعي الفطرة المجبولة عليها الخليقة، وللمحافظة على بقاء الإنسان واتصاله ببني أُرومته، فكان هذا الحب كما قال ابن باديس من نواميس الخلقة، لأن في البقاء عمارة الكون، فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته، وأهل بيته، لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم، وما البيت إلا الوطن الصغير.

نقرأ بعض ملامح عناية الإسلام بالوطن في النصوص الشرعية من ذلك:

1- أن الدور والأوطان تنسب لأهلها، كما هو ظاهر في الآية: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ)، ومثل ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) [الحج:40] يقول ابن عاشور: أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم الموجب إخراجهم، فإن للمرء حقا في وطنه ومعاشرة قومه، وهذا الحق ثابت بالفطرة، لأن من الفطرة أن الناشئ في أرض والمتولد بين قوم هو مساو لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم .. قال عمر بن الخطاب: “إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام”. ولا يزول ذلك الحق إلا بموجب قرره الشرع أو العوائد قبل الشرع، كما قال زهير:

فإن الحق مقطعه ثلاث = = = يمين أو نفار أو جلاء

فمن ذلك في الشرائع التغريب والنفي، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخلع..  واعتبر الشرع هذا الإخراج بغير حق نوع من الاعتداء عليهم وهو ظلم بواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم. التحرير والتنوير: 17/274- 275

2 – عناية الشرع بابن السبيل، وهو الغريب المنقطع عن بلاده، سمي بذلك لملازمته الطريق، إذ ليس هو في وطنه ليأوي إلى سكن، وقد ورد ذكره في الكتاب العزيز في ثمانية مواضع، بين السور المكية والمدنية، يفرض له حقا في البر والإنفاق والإحسان، كما يضرب له حظا من الفيء والزكاة والغنائم، وهذا لون من ألوان التكافل الاجتماعي الذي أوجبه النظام الإسلامي التشريعي للمغتربين عن أوطانهم.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أرأف بالمغتربين، من ذلك الأثر المشهور عن رحلة مالك بن الحويرث رضي الله عنه ومعه نفر من الشباب لطلب العلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة، وكان رسول الله رحيما رفيقا، فلما ظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا.. قال: “ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم..” الحديث. أخرجه البخاري ومسلم. وفي هذا مراعاة لحب الوطن والشدة على مفارقته.

3- حب الوطن الإسلامي سنة ثابتة، أسلفنا أن الوطن وحبه أمر فطري والشرع لم يكلف بأمر يخالف الفطرة، إذ إن الدين الإسلامي نفسه دين فطري، تقبله طبيعة سوية وتستحسنه، لذلك ندب الإسلام إلى حب الوطن، لأنه دليل بقاء هوية الإنسان ونسبه،  وكان من أصرح أدلة على هذا حب النبي صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة، ثم دعوته بأن تحبب إليه المدينة نحو حبه لمكة أو أشد، وأمر النبي بني سلمة حين أرادوا الانتقال إلى جوار المسجد، بقوله: (يَا بني سَلَمَة، ديارَكم تكتب آثاركم)! وذكرت لهذا المنع علتان، الأولى- تكتب لبني سلمة أجر الخطوات إلى المسجد، والعلة الثانية – حتى لا يخلو ما حول المدينة من السكنى، فتترك عراء كأرض فضاء. وفي هذا ترغيب بحب الوطن وإعماره بقوائم العبادات ومحاسن العادات.

يتقرر مما سبق أن الوطن له اعتباره في الإسلام لا يجوز هدره، ينسب إلى أهله بحكم السكنى والإقامة أو النزول، ويعترف الإسلام لأصحابه بإعماره والإشفاق عليه والدفاع عنه، لكن المشكلة التي تعترضنا أن ولاء المسلمين لأوطانهم في عصرنا هذا يكاد يفوق ولاءهم للدين بل قد فاق في قلوب أدعياء القومية، وهنا أرى أن نفرق بين وطن الإقامة وهوية الدين، فإن المسلم له أن يتمسك بداره ووطنه الذي يقيم فيه، لكن يجب أن يدرك كذلك أن أوطان المسلمين كلها له، بحكم إسلامها وإسلام أهلها، وذلك لأمرين:

الأمر الأول – أن الولاء في الإسلام للدين قبل الوطن، والجنسية الإسلامية أعلى وأوثق من الانتماء إلى الوطن، ويكون التناصر والتعاطف على هذا الأساس لأنه من لوازم الإيمان، يحب المؤمنين أينما كانوا، ويتحزب إليهم وإن نأت عنه ديارهم، ويتضامن معهم كالجسد الواحد، يقول الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 55 – 56]

وإن بقاء الوطن بصلاح أهله، والحفاظ على هويتهم الدينية، فالدين وحفظه أعلى في مراتب الضروريات على النفس والوطن، وصلاح الحياة والدنيا والوطن لا يستقيم إلا بإقامة الدين، لهذا ارتبطت هوية الإنسان المسلم على وجه خاص بالدين أولا قبل وطنه.

الأمر الثاني – أن أوطان المسلمين وطن واحد، وديارهم جميعا دار الإسلام ما أقيمت فيها الشريعة الإسلامية، فيجب الولاء والنصرة لها، والدفاع عنها على حد سواء، نلحظ ذلك من مقولة الفقهاء الشهيرة: إذا استولى الكفار على بقعة من دار الإسلام صار الجهاد فرض عين على جميع أفراد الناحية التي استولى عليها الكفار، فإذا لم يستطع أهل الناحية دفع العدو عن دار الإسلام، صار الجهاد فرض عين على من يليهم من أهل النواحي الأخرى من دار الإسلام، وهكذا حتى يكون الجهاد فرض عين على جميع المسلمين، ولا يجوز تمكين غير المسلمين من دار الإسلام..[1].

وهذا الجهاد يكون بكل متاح، المال والنفس والتنديد، وبالهاشتاغ حسب ما يناسب الوقت، وينطبق هذا تماما على كل الأراضي المستباحة المحتلة في البلدان الإسلامية، فكلها أرض الإسلام ووطن المسلمين فلا نفرق على خلفية القومية أو الوطنية أو الحزبية فالمسلمون وولاؤهم لدينهم أولا قبل الوطن.

 


[1]  روضة الطالبين (10/215)، بدائع الصنائع (7/98)، المغني (9/209).