لم يهمل القرآن الكريم في إشاراته لموضوع القيادة ومواصفات القائد ، الدور الفاعل التي تلعبه المرأة في شأن الملك والسلطان ، وإدارة شؤون البلاد والتأثير الفاعل في العلاقات الدولية وحسن تدبير سياسة الشعوب ..

إنها بلقيس ..المثال الأوضح للقيادة النسوية الحصيفة المحنكة والحكيمة والجريئة ، وما لها من دلالات عظيمة الشأن في عالم السياسة والعسكرية والتمدن بكل جوانبه .

ابتدأت القصة في سورة النمل عند عرض مشهد الهدهد في حواره مع سليمان ، و حصوله على الخبر المتعلق بمملكة سبأ ، والتي انتهت بخضوع هذه المملكة العظيمة لحكم سليمان واعتناقها للدين السماوي ..

صفات القيادة لدى بلقيس 

-توافر أسباب القوة والمنعة والتحضر ، وتسخير موارد الأرض والطبيعة لما فيه خير المجتمع والشعب ..هذا ما قاله الهدهد حين غاب عن مملكة سليمان – عليه السلام – وجاء بالخبر (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ). 23 .

والمتأمل في شأن الهدهد – الذي أنطقه الله – يلحظ شيئا مثيرا وملفتا ..!!

إنه يحاول استثارة حفيظة النبي سليمان – عليه السلام – الذي ملك أعظم امبراطورية على وجه الأرض .. بذكر أوصاف هو ذاته يتصف بها ..

إذ كيف يمكن للهدهد أن يتعجب من ملك بلقيس ويعظم شأن حضارتها وصنعة عرشها( وهو سرير الملك ) ، وقد رأى في مملكة سليمان ما هو أعجب وأغرب وأكثر إبداعا وأتقن صنعة !!

 كيف يمكن للهدهد أن يتعجب من ملك بلقيس ويعظم شأن حضارتهاوصنعة عرشها ( وهو سرير الملك ) ، وقد رأى في مملكة سليمان ما هو أعجب وأغرب وأكثر إبداعا وأتقن صنعة!!

إن مشكلة مملكة سبأ آنذك ، تكمن أنها قائمة على الإلحاد وعبادة غير الله ، وعدم الانصياع لرسالة السماء ..حيث كانوا يعبدون الشمس ويعظمونها ويسجدون لها كحال الكثير من المدائن اللادينية والعلمانية .

-اعتماد المشورة في إدارة شؤون الدولة ، والأخذ برأي أهل الخبرة والاختصاص من أعيان الشعب ، وحكمائهم وأفطنهم ، لا سيما في الظروف الاستثنائية الصعبة ومسائل الحرب والسلم ، والعلاقات الدولية ، و سياسات الدولة الخارجية والأمن القومي ..وهذا لعمري قمة التحضر ، وغرة نظام السلطان وسياسة الرعية .

فبعد أن ألقى الهدهد الكتاب المرسل من سليمان – عليه السلام – إلى بلقيس ، ما كان منها إلا أن جمعت الملأ قائلة (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ . إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون ) 29 – 32 .

لقد علمت خطورة الأمر وحساسية الموقف،فالكتاب يحوى تهديدا صريحا لأمن مملكتها. فحملته محمل الجد ..لربما سمعت عن سليمان من قبل ، و قوة سلطانه ومنعة مملكته ، فالأمر جد خطير ولا يحتمل التأخير !!

Untitled
الصفات القيادية لدى بلقيس

-الحكمة والفطنة والذكاء السياسي،والدهاء في التخلص من معضلات الأمور وعويصها، إذ إنها فهمت من كلام الملأ ترجيح كفت الحرب والميل للمقاومة والدفاع عن شرف مملكتهم ، وعدم الرضوخ للملك العظيم سليمان ( قَالُوا نَحْنُ أُولُواْ قُوَّةٍ وَأُولُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ) . 33 .

فقد فوضوها بالأمر مع استعدادهم الكامل للنفير، فهم أهل دراية بالحرب و فنون القتال.

لكنها برزانتها وحصافة عقلها مالت للدبلوماسية في التعامل مع الملك القوي ، والحيلة واللين في علاقتها مع الخطر المحدق ، فالنساء بطبعهن لا يردن ولا يرغبن بالحرب كالرجال الذين تأخذهم العزة بالإثم أحيانا ، والغرور بالزعامة والرئاسة أحيانا أخرى.

ثم إنها تخاف على حضارة كلفت الكثير ، ومدنية أنجزت في عصور ، فكيف تتركها نهب قوة الملوك وسلطانهم  وإفسادهم .

( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) 34.

إنها لفتة صريحة وواضحة لكل من يرى في المصالحة والمداهنة ضعفا وعيبا ، ولكل من يظن في الحروب مخرجا من أزمات ، وحلا لمشكلات الدولة وإثبات زعامتها وتأثيرها الفاعل في المجتمع الدولي!!

 إنها لفتة صريحة لكل من يرى في المصالحة والمداهنة ضعفا وعيبا ، ولكل من يظن في الحروب مخرجا من أزمات ، وحلا لمشكلات الدولة وإثبات زعامتها وتأثيرها الفاعل في المجتمع الدولي!!

ثم إنها لم تكتف بذلك ، بل رأت إهداء سليمان هدية تلين قلبه ، معلنة بها حسن النية في المصالحة ، والتمهيد لعلاقات حسن الجوار بدل الحروب والتوتر الإقليمي .

وأرادت أيضا اختبار هذا القائد العظيم ، وتجربته ، وهل هو من أهل الدنيا فيقبل الهدية ويكف عنها وعن مملكتها ، فتأمن بذلك حدودها ، أم يكون صاحب رسالة وقيم عليا فيرفض الهدية وعندها لكل حدث حديث !!

( وإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) 35 .

لكن النبي الكريم صاحب الرسالة السماوية يغضب لذلك وينكر أن يشترى بالمال ولعاعة الدنيا وزينتها ، فما آتاه الله خير .. لذا يعلن الحرب والنفير (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ).37.

ويظهر له بالفراسة أن القوم آتين للسلم لا محالة ، بعد أن رأوا ما رأوا من عجائب القوة والسلطان في هذه الامبراطورية ، فيطلب من جنده من يأتيه بعرش بلقيس ، الذي هو رمز ملكها وعنوان قوتها ، مثبتا بذلك رمزية السيطرة والتمكن .

يأتيه العرش بطرفة عين ، ويأمر بتغييره وتنكيره من مبدعي وصناع مملكته وجنده، حتى إذا رأته بلقيس – بعدما وصلت بيت المقدس – تعجبت وترددت في الحكم عليه ، ذاهبة مذهب الدهاء الذي عهد عنها ( كأنه هو ) فلم تقل هو أو ليس هو ، بل مالت للتشبيه ، لما اعتراه من تغيير !!

ولما رأت ما رأت من قوة لا نظير لها ، وحضارة لا مثيل لها ، استسلمت لقلبها المرهف  ونداء عقلها اللبيب – فهم أهل حكمة كما عهد عنهم – ، مؤمنة بالله العظيم الذي وهب سليمان هذا الملك ، فضمت سلطانها إلى سلطانه و مدنيتها إلى حضارته .