قال الإمام ابن عاشور – رحمه الله – في تفسير هذه الآية [الأنعام: 28] : “لما قوبل (بَدا لَهُمْ) في هذه الآية بقوله: (مَا كانُوا يُخْفُونَ) علمنا أن البداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا، أي خطر لهم حينئذ ذلك الخاطر الذي كانوا يخفونه، أي الذي كان يبدو لهم، أي يخطر ببالهم وقوعه فلا يعلنون به، فبدا لهم الآن فأعلنوا به وصرحوا معترفين به. ففي الكلام احتباك، وتقديره: بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه. وذلك أنهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله أو من نصر المؤمنين فيصدهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم، وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم … وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} في سورة الحجر [2]”.
ثم قال إن “هذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحير فيها المفسرون وهي لا تلائم نظم الآية، فبعضها يساعده صدرها وبعضها يساعده عجزها وليس فيها ما يساعده جميعها.
وأما قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} فهو “ارتقاء في إبطال قولهم حتى يكون بمنزلة التسليم الجدلي في المناظرة، أي لو أجيبت أمنيتهم وردوا إلى الدنيا لعادوا للأمر الذي كان النبيء ينهاهم عنه، وهو التكذيب وإنكار البعث، وذلك لأن نفوسهم التي كذبت فيما مضى تكذيب مكابرة بعد إتيان الآيات البينات، هي النفوس التي أرجعت إليهم يوم البعث، فالعقل العقل والتفكير التفكير، وإنما تمنوا ما تمنوا من شدة الهول، فتوهموا التخلص منه بهذا التمني فلو تحقق تمنيهم وردوا واستراحوا من ذلك الهول لغلبت أهواؤهم رشدهم، فنسوا ما حل بهم، ورجعوا إلى ما ألفوا من التكذيب والمكابرة”.
ثم استدل بهذا “على أن الخواطر الناشئة عن عوامل الحس دون النظر والدليل لا قرار لها في النفس ولا تسير على مقتضاها إلا ريثما يدوم ذلك الإحساس، فإذا زال زال أثره، فالانفعال به يشبه انفعال العجماوات من الزجر والسوط ونحوهما، ويزول بزواله حتى يعاوده مثله”.
“وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) تذييل لما قبله. جيء بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات، أي أن الكذب سجية لهم قد تطبعوا عليها من الدنيا فلا عجب أن يتمنوا الرجوع ليؤمنوا فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه فإن الكذب سجيتهم”.