عرف الناس الرئيس والمفكر المسلم البوسني علي عزت بيجوفيتش سياسيا محنكا وقائدا قويا ومفكرا عميقا، لكنهم لم يعرفوا الكثير عن علي عزت الإنسان، رغم أن عاطفته الإنسانية الإسلامية تتدفق في كل جوانب حياته، الدكتور علي الفريضي يقدم في كتابه (علي عزت بيجوفيتش، المفكر المجاهد) صورة أخرى للرجل الذي بهر العالم بفكره وقوته وحنكته، وفيما يلي بعض من مواقفه:
الرئيس الزاهد
ليس عاديا في عالمنا الإسلامي أن يجتمع هذان الوصفان في شخص، فالغالب الأعم هو أن يكون الرؤساء في طبقة الأغنياء كسبا وسلوكا، أما علي عزت بيجوفيتش فكان استثناء ضمن أولئك. ويصف علي عزت معيشته قائلا:”إنني أعيش في شقة من غرفتين وهي ملك لرئاسة البوسنة والهرسك دون خدم أو بذخ، ولا أمتلك سوى ممتلكات بدائية، وليس لأولادي ممتلكات كذلك”
ولعل سببين رئيسين يقفان خلف ذلك النمط من الزهد الذي عرف به، أولهما أنه جاء إلى الرئاسة من باب النضال والكفاح الحق، والثاني هو مسيرة حياته الراشدة منذ الطفولة وصدق انخراطه في مأساة البوسنة التي عاشها جسما وروحا.
وفي استقالته طواعية من الرئاسة أصدق دليل على تلك الروح المتعالية على متاع الدنيا التي كان يحملها بين جنبيه، وقد قال عنه صديقه الحميم محمد الفاتح حسنين إنه وزع جائزة فيصل التي فاز بها على العائلات المنكوبة في مدينتي(جبا)و(سربنتيسا).
القائد الصفوح
لم يكن علي عزت يحمل في طويته أي حقد على أحد، بل كان رحب الصدر واسع الحلم، وتعكس شهادة وزير خارجيته حارث سلايجيتش كيف أن هذا السلوك كان بارزا في شخصيته، يقول سلايجيتش:(أثناء عملي معه اكتشفت أن الرجل لا يحمل في صدره أي ضغينة لأحد ويحترم كل الآراء).
وكان رحمه الله منصفا في أحكامه لا يقبل أن يسقط في فخ التعميم ولو كان يتحدث عن أعدائه الذين دمروا بلده وسجنوه سنوات عديدة، وقد خاطب مرة بعد الحرب جماهير الصرب والكروات قائلا:(إنني أخاطب كل أولئك الذي لم تلطخ أيديهم بدماء الأبرياء، إنهم أبرياء، إنهم موطن ترحيب في دولة البوسنة والهرسك).
وقد أثر علي عزت بأخلاقه العالية في السجناء الذين كانوا معه وأغلبهم من سجناء الحق العام لدرجة أنهم أحيانا يخبرونه بأمور لم يبوحوا بها للمحكمة، وقد خاطر أحدهم بتهريب كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) من السجن في علبة شطرنج متجاهلا كل ما يمكن أن يحدث له لو اكتشف أنه فعل ذلك ورافضا أن يتسلم مكافأة نقدية على ذلك.
ولا ينسى علي عزت ذلك الرجل النبيل، بل يتحدث عنه في مذكراته قائلا:”الناس الذين نسميهم مجرمين يعرفون عادة الصداقة، وهم مستعدون للمخاطرة، وبعض من نسميهم طيبين يكونون غالبا مجردين من هذه الفضائل”؟
المسلم الشجاع
حاول علي عزت بكل حنكته السياسية تفادي الحرب، لكنه لم يكن خائفا منها، لذلك قال في خطابه المشهور:”وإذا ما دعت الحاجة فسوف يحمل المسلمون السلاح دفاعا عن البوسنة”، بهذه الكلمات أعلن علي عزت بدء مرحلة جديدة من تاريخ تحرر المسلمين من قبضة الصرب، سيدفع فيها المسلمون أرواحهم ودماءهم من أجل هذه الحرية التي صادرها الصرب عقودا من الزمن.
وقد أبلى الجيش البوسنوي المسلم بلاء عظيما أمام القوة العسكرية الهائلة لجيش الصرب الذي كان ترتيبه الخامس في أوروبا. وكان علي عزت مهندس ذلك العمل الكفاحي الفريد، وكان يملك روحا من الأمل والثقة العالية، يقول في سيرته الذاتية متحدثا عن مرحلة الحرب:”لقد كنا نزداد قوة ويزدادون ضعفا، إن العائق الكبير هو قلة السلاح”.
وحينما حاول المجتمع الدولي وأوربا كسر إرادته بأن يوقف الحرب من طرف واحد من أجل إدخال المساعدات قل كلمته القوية:”إنه لا يمكن وقف العدوان من خلال الصدقات التي ترمون بها إلى شعبنا”
وقد استطاع بحنكته العسكرية أن يخادع الصرب عن جبال (إيجمان) الشيء الذي كان له الدور الأبرز في رفع الحصار عن سراييفو، فقال للمفاوض الأوروبي(أوين) إنه يشترط للتفاوض أن ينسحب الجيش الصربي منها، ولما انسحبوا منها احتلها الجيش البوسني المسلم، ولم يبد علي عزت أي رغبة للتفاوض.
المناضل الذي لا يمل
يروي عصمت كاسيموفيتش وهو رفيق درب لعلي عزت أن الأخير حينما خرج من سجنه الأول لم يذهب إلى بيته للقاء عائلته كما هو المتوقع، لكنه ذهب إلى عصمت كاسيموفيتش ودق عليه الباب، فلما فتح عنه قال:”السلام عليكم، من قائدي الذي يجب أن أتابع معه العمل؟”.
إن هذه القصة تعكس كيف يتصور علي عزت الكفاح الذي انخرط فيه منذ نعومة أظافره، إنه يرى أنه هو رسالته في الحياة، إنه يرى الإسلام كفاحا وصبرا في المحن، يقول في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب):”إن الإسلام لم يأخذ اسمه من تشريعاته ولا نظامه ولا محرماته، وإنما من شيء يتمثل هذا كله ويسمو عليه، من قوة النفس في مواجهة محن الزمن، من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود من أحداث”.
وفي مقولته العميقة التي ضمنها كتابه الإعلان الإسلامي تظهر هذه الفلسفة التي ترى الإسلام من زاوية الكفاح والنضال من أجل الحرية والحق والخير والجمال، يقول علي عزت:”إن اتصاراتنا وانكساراتنا هي في الحقيقة علامات انتمائنا للإسلام”.
يتحدث همسا وبعيدا يُسمَع
ذلك هو علي عزت بيجوفيتش الرجل الذي كان يتحدث همسا وبعيدا يسمع، كما تقول فحرية فيزيتش في كتابها (البوسنة:السر الكبير)، لقد آذاه أعداؤه ولكنهم لم يستطيعوا إخفاء إعجابهم بشخصيته، يقول عنه هولبرك:
“لقد كانت في وسط تلك المعمعة شخصية علي عزة الآخذة للنظر، فلقد استطاع الإبقاء على فكرة البوسنة حية في أحلك الظروف، وكان الرجل ذو السبعين خريفا يرى في السياسة كفاحا مستمرا بعد قضائه ثماني سنوات في سجون تيتو، وصموده أربع سنوات في وجه هجمات الصرب، لقد ذكرني منذ الوهلة الأولى بماو تسيتونغ”.
رحم الله المفكر والقائد المسلم النبيل علي عزت بيجوفتش رحمة واسعة