كان أبي رحمه الله يحب بيروت، كان يلذ له الحديث عن أيامه التي قضاها في بيروت يتلمس أسباب الرزق، يبيع المكسرات حيناً، ويورّد الملابس الجاهزة من دمشق حيناً، وحدثني عن المرة الأخيرة التي رأى فيها بيروت، كان يوماً عادياً لولا أن الطرقات امتلأت بالحواجز العسكرية ونقاط التفتيش، وقال له الناصحون: غادر عجِلاً إلى دمشق فقد اشتعلت الحرب! كان ذلك في سنة ١٩٧٥ للميلاد.

 

وغادر أبي بيروت في سيارةٍ مستأجرة، كان مريضاً يشتعل جسده من الحمّى، ومضت بهم السيارة حتى حلّت بالميدان في دمشق، واكترى غرفة في فندق صغير، وذهب إلى صيدلي عاينَه ووصف له دواءً طاب حاله من بعده.

حين كان يحدثني أبي رحمه الله عن بيروت، كان يذكر مدينةً صغيرة، لكن جميلةً، نظيفةً، فيها من صنوف المآكل الشهية ما تشتهيه الأنفس، ويمكن للكادح فيها وراء رزقه أن يصل إلى ما يبتغي.

هكذا عرفتُ بيروت ابتداءً، وأحببتها كما ينبغي لمن يعرف بيروت ما قبل الحرب الأهلية أن يحبها. ولم أكن أعرف عنها أكثر من تلك الصور الألقة المشهية.

ثم شرعتُ أتلمس الطرق إلى بيروت، على صهوات الصفحات لا ظهور الجياد؛ كنت طفلاً في الابتدائية، أتملى في عناوين الكتب بمكتبة منزلنا الصغيرة، وفي مكتبة منزل خالتي، وهي مكتبة جيدة تحتل جداراً كاملاً، فكان اسم “بيروت” يتكرر كثيراً جداً، وأكثر من جداً، على غلاف كثير من الكتب، فوقر في روعي أن بيروت مصنع كبيرٌ للكتب.

ثم مضت بي السنون، فوجدتني أشاهد بيروت بعيون الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وهو يشير إليها كثيراً في أثناء حديثه عن أي شيء، في “ذكرياته” وفي مقالاته المبثوثة. ولم تكن بيروت الطنطاوي جذابة ولا حلوة في نظري، كانت بيروت أبي أكثر جمالاً وحشمةً!

ومرت بي السنوات قبل أن أتعرف إلى الروائي اللبناني العجاب “ربيع جابر”، الذي صافحته للمرة الأولى من خلال رواية “أميركا” التي سحرتني حقاً، وراقتني، وجذبتني كثيراً، عشت مع بطلة الرواية “مرتا حداد” حياةً طويلة ممتدة، من جبل لبنان، مروراً ببيروت، إلى نيويورك بحراً، إلى أماكن شتى داخل أميركا، عاشت مرتا حياة هادئة الإيقاع على الرغم من التحولات الكثيرة التي مرت بها. كان حضور بيروت عابراً في تلك الرواية التي فتحت شهيتي لالتهام ما أعثر عليه من روايات ربيع جابر، التي حضرت بيروت في عدد منها حضوراً باذخاً أحياناً، دامياً حيناً، حزيناً تارة، وعجائبياً تاراتٍ أخر.

بيروت.. بين الرصاصات والجداريات
الروائي اللبناني ربيع جابر

إذا كان نجيب محفوظ هو روائي القاهرة، وإبراهيم عبدالمجيد روائي الإسكندرية؛ فإن ربيع جابر هو روائي بيروت.

في رواية “الاعترافات” تأتي الحكاية على لسان رجل نصراني بيروتي يتحدث عن بيروت في الحرب الأهلية التي جرت عام ١٩٧٥، يذكر تفاصيل الحرب كما تراها عائلة مسيحية عادية، رب الأسرة مشارك في الحرب: القتل والخطف، والأسرة بنسائها وأطفالها تعيش الحرب ورعبها كما تعيشها أيما عائلة، أخذت تتبدى لي من خلال الرواية تفاصيل تلفت الانتباه حول الحياة “العادية” لأسرة تعيش في مدينة موبوءة بالحرب والقصف، يتجول الموت بين أزقتها ويغير على بيوتها، يجلس أفراد الأسرة في أماكن من الدار لا يبلغها الرصاص الطائش، ويذهبون إلى المدرسة التي تفتح أبوابها إذا هدأت الأوضاع، وتغلها إذا اشتد النزاع، إلى غير ذلك من التفاصيل التي أتاحت لي تمثّل تجربة العيش في مدينة غير آمنة، أجارنا الله وإياكم من ذلك.

أما رواية “بيروت مدينة العالم” فهي عمل ملحمي ضخم، يتناول تاريخ بيروت على مدى عقود وعقود، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، على الطريقة التي يفضل ربيع جابر أن يكتب بها: سرد حكايا العالم من خلال حكاية عائلة! نرى بيروت في هذه الرواية ذات الأجزاء الأربعة مدينةً تعيش كل فصول الحياة: ربيع الأمان، وصيف الخوف، وخريف الفقد، وشتاء الأسى، اللجوء، والنزوح، والفقر، والتشرد، واليتم والثكل، والغموض، والمعارك، والفتن الطائفية، والأحداث المأساوية التي كلما قيل “انقضت”؛ تمادت!

أما رواية “دروز بلغراد” فهي قصةٌ درامية موجعة لنفر من طائفة الدروز، إذ جرى نزاع طائفي في لبنان أثمر مأساةً عاشها أبطال الرواية “حنا يعقوب” وزوجته وابنتهما. وتبدأ الحكاية أيضاً في بيروت، مدينة التناقضات التي لا تنقضي، حيث يعيش الجميع على صفيحة من الزنك توشك كل بضع سنوات أن تصبح ساخنة ملتهبة.

وحضرت معي بيروت في أكثر من سيرة ذاتية، مع كمال الصليبي في سيرته الشائقة “طائر على سنديانة”، ومع سعيد محمدية، مالك دار العودة في بيروت، التي تولت طبع معظم ما صدر من دواوين مشاهير الشعراء خلال القرن العشرين، والذي أبان في كتابه “حياتي بين الشعر والشعراء” عن علاقات واسعة مع نخبة الأدباء الذين كان لهم في بيروت ظلالٌ وآثار أقدام، وكان لبعضهم فيها مستقر ومقام و”متاع” إلى حين.

بيروت.. بين الرصاصات والجداريات
كمال الصليبي

كنت أتخيل بيروت دائماً على هيئات متنوعة، تخيلتها مع حديث المرحوم أبي عنها: امرأة أربعينيةً مترفةً، أنيقة نظيفةً، تضع القليل من الأصباغ على وجهها في بساطة أنيقة.

وكنت أتخيلها مع ربيع جابر امرأةً عجوزاً بالية الأسمال، تحيط بساقها اليسرى ضمادة، وبساعدها الأيمن جبيرة، وعلى رأسها عصابةٌ، امرأة مصابة بجراحات وإعاقات لا حصر لها.. من وراء الحروب والإحن والمواجهات الطائفية، لكني حين قرأت “سبعون” مذكرات ميخائيل نعيمة؛ رأيتُ بيروت على هيئة امرأة كادحة في السابعة والثلاثين، تعمل تحت عين الشمس، في وسط كله صخب، وضجيج، ونفايات لم تكنس. كانت بيروت تمثل الصخب حين يضعها ميخائيل نعيمة في كفة ميزان، وفي الكفة الأخرى قريته في جبل صنين، حيث يجد ابن الجبل في الريف كل ما يفتقده في بيروت: الدعة، والسكون، والراحة، والقلوب الساذجة الطيبة.

المصافحة الأخيرة لبيروت جاءت أقرب إلى الواقع المعاش اليوم، لأنها جاءت طازجة تقريباً، وبلسان صحفي مبين، هو لسان الأستاذ نواف القديمي في كتابه “جداريات بيروتية ولوحات قاهرية” والذي وجدت فيه مزيجاً جميلاً من يوميات السفر إلى بيروت والتجول بين أزقتها ومكتباتها، ومن المعلومات الثرية عن تاريخ بيروت، وجغرافيتها، وفسيفسائها المجتمعية المعقدة: إذ تضم بيروت خليطاً من السنة والشيعة والدروز والعلويين والنصارى.. وفي كل قسم من هذه الأقسام الأساسية أقسامٌ وتفريعات، وانتماءات داخلية، تجعل من بيروت الصغيرة بحراً عميق الغور، وقد قال المتنبي محذراً: “ولكنه من يزحم البحر يغرقِ”!!

وتظل بيروت، بكل تفاصيلها.. عقدةً يعيا منشار النسيان إن رام أن يمر بها مرور الكرام! بكل أنحائها: الحمرا، وفردان، والصنايع، والضاحية، والأشرفية، وبكل انتماءاتها المتناقضة، وألوانها الصارخة، وبحرها البديع، ومطابعها التي لا تنفك تنتج للعالم العربي ما يتلوه الناس في مكاتبهم ومكتباتهم ومساجدهم وكنائسهم وأسرّتهم وحدائقهم.