هل يمكن للفلسفة أن تتلاقى مع علم الكلام في الفكر الإسلامي؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يعالجه المفكر الإيراني حسن أنصاري في كتابه “بين الكلام والفلسفة”، وهو عمل بحثي متعمق يسلط الضوء على التحولات الفكرية التي شهدها هذان العِلمان وأثر المدارس الفلسفية المختلفة على تطورهما. يقدم الكتاب دراسة تحليلية مدعومة بالمخطوطات والمصادر النادرة، ليعيد إحياء النقاش حول أعلام الفكر الإسلامي، سواء المشهورين منهم أو الذين طواهم النسيان.
كتاب “بين الكلام والفلسفة” يمنح للباحثين أو المهتمين بتاريخ الفكر الإسلامي، رؤية متكاملة حول العلاقة الجدلية بين الفلسفة وعلم الكلام، مدعومة بتحليل تاريخي دقيق لفهم أعمق لأحد أهم محاور الفكر الإسلامي!
يُعَد كتاب “بين الكلام والفلسفة” للمفكر الإيراني المستعرِب حسن أنصاري واحدًا من أبرز الدراسات المعاصرة التي تتناول العلاقة بين علمَي الكلام والفلسفة في الفكر الإسلامي. صدر الكتاب عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة “ترجمان”، وجاء في 464 صفحة، حيث يضم مجموعة من المقالات التي تتناول تطور هذين العلمين، وأبرز أعلامهما، وأهم الكتب والمخطوطات المتعلقة بهما.
يتميز كتاب “بين الكلام والفلسفة” بأسلوبه التحليلي العميق الذي يعيد النظر في محطات أساسية من تاريخ الفكر الإسلامي، ويُسلّط الضوء على الشخصيات المهمشة والمدارس الفكرية المختلفة التي أسهمت في تطور هذين المجالين.
حسن أنصاري .. الكاتب الإيراني المستعرِب
حسن أنصاري أكاديمي إيراني بارز، حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون، وشهادة الحوزة العلمية في الفلسفة وعلم الكلام والشريعة الإسلامية. درّس الفلسفة الإسلامية والغربية في جامعة طهران (1993)، وتاريخ الفكر الإسلامي في الجامعة اللبنانية (1997)، وفي جامعة السوربون (2006). عضو معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برينستون منذ عام 2013. يتقن العربية والإنكليزية والفرنسية والفارسية. له العديد من البحوث والدراسات والمؤلفات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية.

أما مترجم كتاب “بين الكلام والفلسفة” فهو الباحث مصطفى أحمد البكور، حاصل على الدكتوراه في اللغة الفارسية وآدابها من جامعة طهران. درّس الفارسية وآدابها في الجامعات السورية. عمل باحثًا ومترجمًا في مراكز عدّة للبحوث والدراسات الإيرانية. له عدد من المؤلّفات والبحوث العلمية والأعمال المترجمة، منها: “حكايات من الأدب الشعبي الفارسي”، و”شاهنامة الفردوسي”. يشغل حاليًّا منصب أستاذ مشارك في جامعة أرتفين تشورو التركيّة.
يضم كتاب “بين الكلام والفلسفة”مجموعة مقالات (سبعًا وثلاثين مقالة) للكاتب الإيراني حسن أنصاري، المتخصص في مجال علم الكلام والفلسفة الإسلامية في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة برلين المفتوحة، التي عمل فيها محاضرًا في أصول الفقه وتأريخ علم الكلام، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون عام 2009، لينتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية ويصبح عضوًا في معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برينستون منذ عام 2013 وحتى اليوم.
المنهجية المتبعة في كتاب “بين الكلام والفلسفة”
يعتمد أنصاري منهجًا تحليليًا تاريخيًا في استعراضه لهذه القضايا، إذ يُقسم مقالاته إلى قسمين رئيسيين:
1- قسم ببلوغرافي
يُركز القسم الببلوغرافي على الكتب والمخطوطات التي تشكل أساس البحث.
2- قسم تحليلي
يُناقش القسم التحليلي تطورات الفكر الفلسفي والكلامي، مع دراسة المعارك الفكرية بين المدارس المختلفة.
يُبرز الكتاب التحولات الفكرية التي شهدها علم الكلام الإسلامي، لا سيما في الجدل بين المعتزلة والأشاعرة، ودور الفخر الرازي في دمج الفكر الفلسفي في علم الكلام، وتأثير الفلسفة الإشراقية على المدارس الكلامية المختلفة.
انطلق المؤلف في كتابة مقالاته المحتواة بين دَفّتي هذا الكتاب قبل سنوات عدة، وهي لا تزال مفتوحة لمن أراد الاستزادة في البحث، فالواقع أنه أراد لمشروعه هذا أن يكون مطالعة شاملة للعلاقات بين الفلسفة وعلم الكلام في الحضارة الإسلامية، وقد قسم مقالاته مجموعتَين، تقوم الأولى على التعريف الببليوغرافي بالكتب التي تتضمن موضوع البحث، بينما الأخرى ذات إطار تحليلي شامل.
ومن هنا، جاء التركيز في البحث على التطورات الأدبية في الأنواع المختلفة من الفلسفة وعلم الكلام، متوّجًا إياها بقسم للمؤلفات عن الإمامة بين المعتزلة والزيدية، فشَرَّع نافذةً على العلاقات بين التشيّع والاعتزال، الموضوع الذي جرى بحثه في مقالات هذا الكتاب بأسلوب تاريخي وتحليلي.
وتطرقت مقالاتٌ عدة من كتاب “بين الكلام والفلسفة” إلى مؤلفات المعتزلة، وإلى أهم قضايا فلسفتهم وفحوى علم الكلام لدى فرقهم المختلفة، ومتكلمي مدارسهم الكلامية المختلفة. وخُصص قسمٌ في المقالات للاتجاهات الفلسفية الأخرى، لا سيما مدرسة ابن سينا وتلامذته الخراسانيين، ومؤلفاتهم وأفكارهم، وذكر بعضًا من مؤلفات أهل السنّة والجماعة، وإن كان محدودًا، لا سيما علم الكلام الأشعري وعلاقته بالفلسفة، ودور الفخر الرازي تحديدًا في هذا المجال كما ورد في مقالة نصير الدين الطوسي. وتطرق أيضًا إلى المدرسة الكلامية الماتريدية، فقد حدا الأمل بالكاتب لأن تتاح له فرصة تأليف عدد من المقالات المتعلقة بتاريخ علم الكلام عند السنّة، وبالمدرسة الفلسفية لابن سينا في خراسان.
“بين الكلام والفلسفة”: التاريخ والفحوى
تُطبع مقالات أنصاري هذه مجموعةً على الورق للمرة الأولى، فمعظمها كان نُشر سابقًا مفرَّقًا على الموقع الإلكتروني الإيراني “كاتبان” في إطار مجموعة “الدراسات التاريخية”. إن العامل المشترك بين مقالات كتاب “بين الكلام والفلسفة” هو أنها دراسات تاريخية عن علم الكلام عند المسلمين وعلاقته بالفلسفة الإسلامية، والتحولات التي مرَّ بها هذان العِلمان المهمّان، وأهم مفكّريهما في تاريخ الإسلام، الأعلام المشاهير منهم مثل ابن سينا والطوسي والمفيد وعمر الخيام والفارابي والبلخي والكاتبي، والمغمورين أو قليلي الذكر الذين أعاد الكاتب تسليط الضوء على أفكارهم وكتاباتهم، كحسام الدين السالار وشرف الدين المسعودي وأبي البركات البغدادي وابن الملاحمي والجِشُمي وأبي القاسم البلخي وأبي المعالي العلوي وأبي الحسين البصري والقاضي جعفر بن عبد السلام، وكثيرين غيرهم.

وتتعرض المقالات بالكلام للأقطار التي ازدهر فيها هذان العِلْمان، كالرّيّ واليمن وبغداد وخراسان وبلخ وإيران، وظروف هذه الأقطار وتأثيرها في ما أنتجه علماؤها من مؤلفات تناولتها المقالات بالتحليل المعمَّق، وهي راوحت بين الكتب والرسائل والدراسات و”المباحثات” و”المناظرات” والمخطوطات، القديمة منها والوسيطة.
الكتب والرسائل التي تناولها الكتاب
تطرق كتاب “بين الكلام والفلسفة” إلى مجموعة من المؤلفات المهمة في الفكر الإسلامي، مثل:
- صوان الحكمة
- عيون المسائل وشرحه
- التذكرة
- المعتمد في أصول الدين
- البستان في تفسير القرآن
- تفسير الكشاف
كما شمل تحليلًا لمجموعة من الرسائل المهمة، مثل:
- رسالة الطوسي في انتقاد أبي البركات البغدادي
- رسالة ابن سينا حول فلسفة الفارابي
- رسائل فلسفية لحكيم خراساني مجهول في القرن السادس
- رسالة في العقيدة الماتريدية لأبي المعالي العلوي
- رسالة في الرد على الملاحمي عن الإمامة
المخطوطات التي وردت في الكتاب
أفرد حسن أنصاري جزءًا مهمًا من كتابه “بين الكلام والفلسفة” لدراسة المخطوطات الكلامية والفلسفية، ومن أبرزها:
- المخطوطات الزيدية في اليمن وإيران
- مخطوطات المعتزلة في تركيا وآسيا الوسطى
- مخطوطات المدرسة البهشمية
- مخطوطات مكتبة العتبة الرضوية بمشهد
- مخطوطات تصفّح الأدلة لأبي الحسين البصري عند القرّائية اليهودية
فكرة الكتاب ومحتواه
يتألف كتاب “بين الكلام والفلسفة” من سبعٍ وثلاثين مقالة نشرها المؤلف سابقًا بشكل متفرق، قبل أن تُجمع في هذا الإصدار الشامل. يركز الكتاب على دراسة التاريخ الفكري لعلم الكلام والفلسفة الإسلامية، مع تحليل للعلاقات التي ربطت بينهما، والتحولات التي طرأت عليهما، وأهم المفكرين الذين ساهموا في تطورهما.
يولي الكتاب اهتمامًا خاصًا بمدارس علم الكلام المختلفة، مثل:
- المعتزلة
- الأشاعرة
- الماتريدية
- الإمامية
- الزيدية
- الإسماعيلية
- النصيرية
- النظّامية
- الكرّامية
- التفكيكية
كما يعرض تاريخ الفكر الكلامي والفلسفي في عدة مناطق، من بينها بغداد، خراسان، الريّ، اليمن، وإيران، محللاً تأثير البيئات الثقافية المختلفة على نشأة هذه المدارس الفكرية وتطورها.

أهم الشخصيات التي تناولها الكتاب
يتناول حسن أنصاري في كتابه عددًا من الشخصيات المؤثرة في تاريخ علم الكلام والفلسفة الإسلامية، ومنهم:
- ابن سينا
- الفارابي
- نصير الدين الطوسي
- عمر الخيام
- البلخي
- الكاتبي
- القاضي عبد الجبار
- أبو الحسين البصري
- حسام الدين السالار
كما يعيد المؤلف تسليط الضوء على مفكرين قلَّ ذكرهم في الدراسات الحديثة، مثل شرف الدين المسعودي، أبي البركات البغدادي، الجِشُمي، ابن الملاحمي، وأبي القاسم البلخي.
الاستفادة من المصادر الغربية
لا يقتصر الكتاب على المصادر العربية والفارسية فقط، بل يعتمد أيضًا على دراسات أكاديمية غربية لتعزيز تحليله، ومن بين هذه المصادر:
- الفكر اليوناني والثقافة العربية لديمتري غوتاس لديمتري غوتاس
- الإنسانية في عهد النهضة الإسلامية والفلسفة في عهد النهضة الإسلامية لجويل كريمر
- تاريخ العصور الأولى للزيدية لويلفرد مادلونغ
- دراسات لهاري ولفسون في فلسفة علم الكلام
استعان المؤلف، ليدعم بحوث مقالاته، بكتب أجنبية أخرى، من قبيل كتاب للبروفيسور الألماني – الأميركي ويلفرد مادلونغ عن تاريخ العصور الأولى للزيدية، وكتاب آخر لكريمر أيضًا عن أبي سليمان السجستاني، وكتاب ومقالة له عن ابن ماتويه موجودة في دائرة المعارف الإسلامية في ليدن، ورسائله المتعددة عن أبي الحسين البصري. واستعان أيضًا بدراسات لريتشارد مارتن ودانييل جيماريه، وببحوث معمّقة لهاري ولفسون.
خاتمة
يُعد كتاب “بين الكلام والفلسفة” مرجعًا مهمًا للباحثين في الفكر الإسلامي، حيث يعالج قضايا تاريخية وفلسفية بأسلوب علمي دقيق. يتميز بالجمع بين التحليل التاريخي والاستناد إلى المصادر الأولية والمخطوطات، مما يجعله دراسة متكاملة لفهم تطورات علم الكلام والفلسفة الإسلامية.
يقدم حسن أنصاري في هذا الكتاب مشروعًا فكريًا متكاملًا، يسعى إلى إعادة النظر في العلاقة بين علم الكلام والفلسفة، وإبراز الدور المهم لعلماء الإسلام في هذا المجال. ومن خلال تناوله للمدارس الفكرية المختلفة، والشخصيات البارزة، والمخطوطات النادرة، يوفر الكتاب للقراء والباحثين مادة غنية لفهم تاريخ الفكر الإسلامي بعمق.