( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) البقرة : 142 .
كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة ، وكان الكثير من أهلها يهود ، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود لأنه سيوافقهم قبلتهم ، فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهرا ، وكان يحب قبلة إبراهيم عليه السلام فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله) : قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ..) البقرة : (144) . إلى آخر الآيات ( 145 – 150 )
فارتاب السفهاء خفاف الأحلام من اليهود و غيرهم من منافقين ومشركين (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) ، وأخذوا يشككون ويستهزؤون في شأن تغيير القبلة ، ويثيرون القيل والقال والشبهات والطعن في هذا النسخ ، فجاء الرد من الحكيم العليم لنبيه الكريم وللمسلمين ، ملقنا لهم الجواب القاطع والحاسم لكل شبهة اعترت القبلة ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ).تفسير ابن كثير .
والملفت في الآيات – من 142 إلى 150 – أن قوله ( سيقول السفهاء ..) 142 استبقت الأحداث ، فذكرت ما سيكون قبل أن يكون ، في حديث عن الغد الآتي ، قبل وقوع الشبهات والطعن في تغيير القبلة من قبل السفهاء ، متصدرة بحرف السين ، المستعمل للمستقبل عادة .فما الحكمة من ذلك ؟!
ولعل فائدة الإخبار بقول السفهاء قبل وقوعه ، أن المكروه الذي يفاجئ الأمة المؤمنة أشد وطئا عليها واضطرابا وبأسا ، و هو بمثابة الصدمة التي تزعزع المجتمع الإسلامي وتزلزل أركانه وتضعضع صفه ، لاسيما في مراحل تكوينه وتشكله . لكن العلم به – المكروه – قبل وقوعه والاستعداد له بالحجة والبينة والدليل والموقف ، ومعرفة مخاطره وآثاره على الصف المسلم ، وعلى عالم أفكاره وعالم أشخاصه ، يوطن النفوس والعقول على الصبر والمواجهة بشتى وجوهها والتحدي بكل صنوفه ، ” والجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه ” . الكشاف للزمخشري . 1 : 197 .والعرب تقول ( قبل الرمي يراش – من الريش – السهم ) ، وهو مثل يضرب للاستعداد للأمر قبل وقوعه .
أليس هذا بعدا استراتيجيا معجزا فائقا في الكتاب الحكيم ، يربي في معتنقيه ومعتقديه التخطيط بعيد المدى – ناهيك عن قريبه – ، والتفكير بالأمر قبل أوانه ووقوعه ، والنظرة المستقبلية على جميع الأصعدة والمستويات ، ووضع وتحديد الأهداف لها ، واستشراف الآتي وتوقعه و الاستعداد له وتعيين ما يلزم له من المهارات والوسائل والآليات ، والاستثمار السليم والصحيح للمواقف المتوقعة .
القرآن الحكيم ربط البعد الاستراتيجي والنظرة المستقبلية بوسطية الأمة وخيريتها
بل والملفت أيضا أن القرآن الحكيم ربط هذه الجزئية المتعلقة بالبعد الاستراتيجي والنظرة المستقبلية ، بوسطية الأمة وخيريتها ، حيث جاءت آية الوسطية في قوله ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (143) ، عقبها مباشرة ، في إشارة – والله أعلم – إلى أن التخطيط الاستراتيجي على العموم وفي مواجهة أعداء الأمة وخصومها اللدودين على الخصوص وفي مختلف الصعد ( الفكرية والسياسية والإعلامية والعسكرية والاقتصادية ..) ، مرتبط بوسطية الأمة وعدالتها وخيريتها وقيادتها للمجتمعات والامم .
بل إن البعد الاستراتيجي واستشراف المستقبل يقتضيان دراسة عميقة للواقع وتحليله ومعرفة بجوانبه وتفصيلاته ، وحضور معرفي منهجي دائم مؤثر ودقيق له ، وربط الواقع بالمستقبل وهذا ينسجم مع مصطلح وسطية الامة وشهادتها على الامم على حد سواء .