الإستشراق : عبارة عن تيار علمي فكري سياسي اقتصادي غربي النشأة ، يهتم بدراسة حضارات الشرق وأديانه وثقافاته وتاريخه ولغاته وآدابه وعاداته وتقاليده ، ويحاول التعرف إلى كل ما يمت بصلة إلى الشرق ، وبخاصة العالم الإسلامي.
وقد كان لحركة الاستشراق آثارً إيجابية في جانب وسلبية في جانب آخر ؛ وقد استفاض علماؤنا بيان الآثار السلبية للإستشراق وملخصها التشكيك بالوحي الإلهي ، والطعن بالشريعة وأصالة الفقه الإسلامي ، والقول بأن أصوله رومانية !! وإحياء النعرات القومية بهدف تفتيت الأمة.
من الإيجابيات الإستشراقية فهي – للأسف – غير مدروسة ومهملة إسلاميًا..فلقد انشغلنا بتأثير الاستشراق على الفكر الإسلامي وهو أمر مهم وخطير ، ولكن لم نهتم بمعرفة تأثيره في الفكر الغربي، وهو مفيد وإيجابي من عدة وجوه:
الوجه الأول: الاستشراق مسؤول عن نقل المعرفة الإسلامية والشرقية عامة إلى الغرب الذي أفاد من هذه المعرفة؛ حيث عكف المستشرقون على ترجمة النصوص الأساسية في الديانات، وأيضًا ترجمة النصوص العلمية في العلوم عند المسلمين، وعند أهل الشرق.. وهي العلوم التي كانت أساسًا في النهضة العلمية في الغرب، وهذا يعني أن الاستشراق مسؤول عن نهضة الغرب العلمية، وله إسهاماته في تقدم العلم في الغرب من خلال النصوص الشرقية والإسلامية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية قبل عصر النهضة..فالمعرفة الإسلامية التي نقلها الاستشراق إلى الغرب كان لها دور كبير في تطوير الفكر الغربي بل وتعديل مسيرته في بعض الأحيان، فقد أدت الأعمال الإسلامية العلمية التي ترجمها المستشرقون قبل عصر النهضة الأوروبية إلى تطوير العلم الغربي، وإدخال الغرب في مرحلة النهضة العلمية والتقدم الصناعي والتكنولوجي الذي يهيشه الغرب حاليًا..وتوضح هذه الأعمال فضل المسلمين على أوروبا وحضارتها ونهضتها.
الوجه الثاني: أن الترجمة التي قام بها المستشرقون للفكر الديني الإسلامي وبخاصة ترجمة النصوص الكلامية والفلسفية، ولا سيما النصوص ذات الاتجاه العقلاني؛ مثل: النصوص الاعتزالية، وأعمال الفلاسفة مثل الفارابي، والكندي، وابن سينا، وقد أثر بعض هؤلاء في الفكر الغربي تأثيرًا مباشرًا؛ مثل ابن رشد، الذي أصبحت له مدرسة غربية تسمى: “المدرسة الرشدية”، وينتمي أتباعها من الفلاسفة الغربيين إلى فلسفة ابن رشد ومنهجه..ناهيك عن بحوث المستشرقين في مجالات مختلفة أدت إلى تطور الفكر الديني اليهودي والمسيحي..ففضلاً عن الاستفادة العقدية في مجال بناء العقيدة ، وتنظيمها ، وإصلاحها استفاد الغرب من المسلمين في مجال النقد الديني ..فقد أعادت اليهودية والنصرانية النظر في الاعتقادات الخاصة بهما في ضوء النقد الإسلامي لهما..وكانت الإصلاحات الدينية ردود فعل حقيقة تجاه هذا النقد الإسلامي..ففي اليهودية نجد الإصلاحات القرآنية والسامرية وردود الفعل اليهودية الأرثوذكسية تعكس تأثيرًا إسلاميًا حقيقيًا.وفي المسيحية كان ظهور المذهب البروتستانتي المعارض للكاثوليكية يعكس آثارًا إسلامية واضحة في بنود الإصلاح الأساسية..بالإضافة إلى هذا كله نشأت حركة نقد “الكتاب المقدس”Biblical Cristicism مستمدة الكثير من نظرياتها في الكتب اليهودية والمسيحية من النقد القرآني والنقد الإسلامي لهذه الكتب في أعمال المسلمين التي ترجمها المستشرقون منذ وقت مبكر إلى اللغة اللاتينية وإلى اللغات الأوروبية الحديثة..ويشار خاصة إلى مدرسة المستشرق الألماني يوليوس فلهوزن، وهو مستشرق كبير ومؤسس حركة نقد الكتاب المقدس.
الوجه الثالث: يعتبر الاستشراق مسؤلاً عن إدخال الموضوع الشرقي في الأدب الغربي وفي الفنون الغربية..فالأعمال الأدبية والفنية الإسلامية التي ترجمها المستشرقون إلى اللغات الأوروبية تركت أثرًا واضحًا على الأدباء والفنانين الذين انبهروا بالموضوعات الأدبية والفنية والشرقية.. حيث صبغت الحركة الأدبية والفنية في الغرب بصبغة شرقية من حيث الموضوع في الأدب والفن، ومن حيث الأشكال الفنية والأدبية ..وزاوجوا بينها وبين الموضوع الغربي في أعمالهم وقد كان لـ”ألف ليلة وليلة” وغيرها من أشكال القصص الشعبي الشرقي وقصص الحيوان في “كليلة ودمنة” أثر واضح في تطور الفن القصصي والروائي في الغرب.
الحق أقول: إن كل هذه التأثيرات التي ذكرناها مختصرة..هي نتيجة لقيام المستشرقين بترجمة الأعمال الإسلامية المختلفة ، والبحث فيها ، ونشرها في بيئتهم الأمر الذي ساعد على التعريف بالإسلام وحضارته من ناحية ، وإثراء الفكر الغربي بنقده ، وتصحيحه ؛ ومده بموضوعات جديدة وأشكال أدبية وفنية لم يعهدها مكنته من تطوير آدابه وفنونه وإثرائها.