تأنيب الضمير هو أعظم أجهزة الرقابة الداخلية التي وُضعت في النفس الإنسانية، يعمل قبل الفعل وأحيانًا بعده ليوقظ صاحبها ويُرشدها نحو الإصلاح. رغم أن الإنسان يمكن أن يصنع أجهزة رقابية خارجية تُخفي أو تتغلب عليها، فإن ضميره لا ينفك عنه، وقد يتأخر في اليقظة أو يُغشى عليه، فيبقى الخلل في النفس حتى يُعترف به ويُصلَح.

ومن شأن الإنسان السوي الذي حافظ على فطرته أن يكره الخطأ، وأن يتألم لأجل الوقوع فيه، وأن يشعر بشيء من وخز الضمير.

وحتى يعمل الضمير عمله في تعديل مسار الإنسان، لا بد من جلسة محاسبة قبل القيام بعمل ما، تبحث عن النوايا وطريقة القيام بالعمل. هذه المحاسبة قد يترتب عليها يقظة الضمير وعتابه، ومن ثم الإصلاح. وقد يجتهد الإنسان أو المجتمع في إسكات صوت الضمير بعد أن يعلو، وقد يبالغ في هذا الإسكات حتى يصل إلى الخنق، لكي لا يسمع المذنب صوت عتاب أو تأنيب، لا من ضميره ولا من الناس من حوله.

هذا التأنيب قد يُمارَس بشكل سري بين الإنسان ونفسه، وقد يُمارَس بشكل علني. وقد سمعت ممن درس الفلسفة ودرّسها اعتذارًا علنيًا عمّا سببه من أرق وقلق لمتابعيه من خلال مؤلفاته ومقالاته ولقاءاته عبر وسائل الإعلام، ولعل الرجل امتلك هذه الشجاعة التي تنم عن يقظة الضمير وتأنيبه.

وعندما يتعلق الأمر بمصائر الجماهير الغفيرة، وما وقعوا فيه من أخطاء بسبب اتباعهم لمسار فكري أو فقهي اتضح بُعده عن الحق، فهل يحملنا تأنيب الضمير الذي اكتشف خطأ هذا المسار أو الاجتهاد أن نعلن عن هذا الخطأ دون مواربة أو خجل؟ إعلانًا يكشف عن صدقنا مع الحق، وحرصنا على الخلق، وولائنا لله تعالى وحده، ولمن يسير على طريقه المستقيم.

ولا بد أن ندرك أن تسجيلنا لخطأ عالم أو مفكر أو من يقتدي الناس به لا يعني أبدًا أن نسيء إلى المخطئ الذي اعترف، بل نمدح كل من أقر بخطئه وسعى لإصلاحه دون أن يخشى سطوة العامة ولعناتهم، أو خطر البلبلة التي يجعلها البعض وحشًا يبتلع الحق وأهله إن أقررنا بميلنا عن الحق. ومن ثم، فالسكوت والبقاء تحت ضغط عذاب الضمير هو أهون الشرين وأسلم الطريقين.

والحقيقة أن المجتمع المسلم مجتمع قوي، يصحح أخطاءه بالاعتراف والاعتذار من المخطئ، أو بالتنبيه المهذب من غيره؛ فالتستر على العيوب أكبر دافع لاستمرارها واستمرار مزيد من البعد عن المنهج الحق وارتكاب الكثير من الموبقات، بل الدفاع عنها. فيجمع هؤلاء بين الوقوع في الخطأ والمكابرة في الاعتراف بذلك، بل يتمادى بعضهم ويجعل من الخطأ الصريح هو عين الصواب، وكل هذه الجرائم حتى لا تهتز صورة شخص في عين أتباعه ومريديه.

إن الاعتراف بالخطأ الناتج عن تأنيب الضمير هو أقصر الطرق للإصلاح وأقربها نحو الفلاح.

الضمير الفردي والضمير الجمعي: الفرق وأثرهما

عرف الإنسان يقظة ضميره الشخصي، وعرفت المجتمعات ضميرًا جمعيًّا يضع الحدود التي تتفق مع الشريعة أو تبتعد عنها، كما عرف الإنسان شعور هذه المجتمعات بالألم نتيجة خذلان صاحب حق أو شعوره بالظلم. وقد تمر بها فترات يتآلف الناس على السكوت عن منكر ما، لأن كل واحد يريد من الآخر أن يبدأ إيثارًا للسلامة.
وما تمر به المجتمعات في تعريف المنكر وتحديد معالمه، وإيقاظ الضمير الغافي أو الميت، يمر بعدة اعتبارات؛ منها: فداحة الظلم الواقع بحيث لا يسمح للأفراد أن يمارسوا التغافل، أو حركة أشخاص مؤثرين وهم دائمًا قلة.

تأنيب الضمير على التقصير في الخير

من النفوس ما يسعى باستمرار إلى الكمال، فلا يرتاح إلا إذا أنجز ما كُلِّف به على خير وجه. فإذا أدرك بعض جوانب التقصير، تألم وحزن، ومن هذه النفوس ما تحول حزنها إلى طاقة إيجابية تعيد إصلاح ما رأته من جوانب القصور إذا أمكنها، أو إذا أدت هذا العمل مرة ثانية، جودت في إخراجه على خير الوجوه.

مخاطر إسكات الضمير: الإلحاد، الانتحار، والآلام النفسية

تأنيب الضمير والإلحاد

عندما يقع العبد في معصية تؤرقه، لا يستطيع أن يتوب منها، ولا يستطيع أن يتوقف عن فعلها، قد يلجأ إلى إنكار وجود الإله، والحلال والحرام، والحساب فرارًا من تأنيب الضمير الذي لا يدعه يستمتع بمعصيته.

تأنيب الضمير والانتحار

عندما لا يستطيع المخطئ أن يفر من تأنيب الضمير أو إصلاح خطأه، تسود الدنيا في عينه، ولا يجد لنفسه مخرجًا من هذا العذاب الذي يلاحقه في كل مكان، فيلجأ إلى الانتحار فرارًا من تأنيب الضمير.

تأنيب الضمير والآلام النفسية

أحد تجليات تأنيب الضمير ما يحدث للإنسان من آلام نفسية تنغص عليه حياته كالقلق والاكتئاب والوساوس والعزلة، وقد تتحول إلى آلام جسدية لا يعرف لها سببًا.

مواجهة وساوس الشيطان وكثرة الأخطاء

قد يوسوس الشيطان للإنسان بأن أخطاءه كثيرة ومتكررة، ولا داعي لأن يتعب نفسه ويهلكها بكثرة التأنيب؛ عليه أن يخرج من نوبات التعذيب النفسي هذه ويعيش حياته. ومن يسمع هذه الأفكار ويريد أن يستجيب لها، عليه أن يتذكر أن الشيطان له بالمرصاد، يريد أن يغلق أمامه أبواب الرحمة والخير. وكما أن للشيطان لمّة فإن للملك لمّة، ولا يزال الإنسان تتجاذبه لمّة الملك ولمّة الشيطان، حتى يثبّته الله تعالى على طريق الحق، ويكون صوابه أكثر من خطأه. وكل جلسة يصارح فيها الإنسان نفسه بصدق هي نفحة من نفحات الله؛ عليه أن ينتفع بها في تعديل مساره.

كما نتذكر قوله تعالى في الحديث القدسي: «مَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً»[1]. وكل ألم يحدثه تأنيب الضمير هو كفارة لما وقع من ذنب، فقد قال : «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»[2]، أي ركن التوبة الأعظم هو الندم.

حيل النفس للهروب من تأنيب الضمير

يتخذ المخطئ عدة طرق للهروب من عذاب الضمير، منها:

  1. تعليق الخطأ على شماعة الآخرين: يرى المخطئ نفسه إنسانًا صالحًا، لكن من حوله يضغط عليه ويجبره على الخطأ، كما يرى أنه يقف وحيدًا في مواجهة هذا الخطأ، وليس هناك من يمد يد العون له.
  2. عموم البلوى: يخاطب المخطئ نفسه بأن المجتمع فيه فساد كبير، وما من شخص إلا وله أخطاؤه، وهذا الخطأ الذي يقلقه ويحرمه من النوم وينغص عليه حياته لست الوحيد الذي يقوم به.
  3. التبرير: يقدم عشرات الأسباب غير الحقيقية في نظره هو قبل غيره، لكي يبرر لنفسه هذا الخطأ.
  4. الهروب بالتفكير والحديث في موضوع آخر: في ساعة صفاء المخطئ مع نفسه أو مع غيره، ما إن يبدأ الحديث أو مقدماته بضرورة التفكير في طريقة للخلاص من هذا الذنب، حتى يفتح موضوعًا تلو الموضوع، لكي لا يصل إلى لحظة المصارحة والمكاشفة.
  5. الاعتماد على سعة رحمة الله: يخاطب نفسه بأن رحمة الله واسعة تسع المخطئين، ولا تضيق بمثله، وما ذنبه إلا كذنوب الناس أو أقل؛ وقد بين الله تعالى في مواضع من كتابه، وعلى لسان رسوله ، صفات من يستحق رحمة الله تعالى.

أسباب يقظة الضمير

إيقاظ الضمير الغافي أحد أعظم المهام التي ينبغي أن ينتبه لها المسلم ويضعها على رأس أولوياته، ومن الأمور التي تساهم في يقظة الضمير:

  1. استدامة الذكر: استجابة لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب: 41-42]. هذا الذكر قد يتوقف عند حدود اللسان فقط، وقد يصل مع التكرار والمثابرة إلى شغاف القلب، ولعل الذاكر إذا استحضر نية إحياء قلبه بالذكر فإنه سيجد آثارًا طيبة تبدأ بالسكينة النفسية ولا تنتهي بيقظة الضمير.
  2. إدراك أن أحوال الإنسان الإيمانية قد تتغير صعودًا وهبوطًا، وعدم اليأس من لحظات السقوط.
  3. تعميق الإيمان باستحضار عظمة الله من خلال تلاوة آياته، واستحضار القلب في الصلوات والدعاء، والتفكر في آثار العقوبات الإلهية.
  4. الانتباه إلى أن الضعف الإنساني هو أحد أخطر أسباب الوقوع في الخطأ، سواء أكان ضعف إيمان أو ضعف عزيمة.
  5. المعرفة بالحلال والحرام وأثر الالتزام بحدود الله تعالى في تحقيق الراحة النفسية.
  6. الصحبة الصالحة التي تعمل بموجب قوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 3].
  7. أثر العبادات في يقظة الضمير: وللعبادات تأثير كبير في يقظة الضمير الإنساني؛ فالصيام أحد المدارس الكبرى التي يتربى فيها ضمير المسلم، حيث بإمكانه أن يفطر دون أن يراه أو يعلم بفطره أحد، ويتناول إفطاره مع الآخرين كأنه كان أشدهم جوعًا وعطشًا لكنه لا يفعل.
    • وبإمكانه أن يخرج الزكاة عن بعض ماله ويترك البعض دون أن يعلن عنه، لكنه لا يفعل.
    • وبإمكانه إذا وقع في محظور من محظورات الإحرام في الحج أن لا يقدم الكفارة، لكنه لا يفعل، بل يسأل بحرص عن كفارة ما وقع فيه ويُبادر إلى إخراجها.
    • وكذلك في الأيمان التي يُقسم عليها، يسأل: هل لهذا اليمين كفارة؟
    • البعض يستفيد من هذه العبادات في حياته اليومية، فترى ضميره يقظًا منتبهًا، يسأل عن الحلال والحرام، وإذا أخطأ اجتهد في السؤال عن تصحيح خطأه والتكفير عن ذنبه، وآخرون يفصلون فصلًا تامًا بين علاقتهم بالله تعالى في العبادات وعلاقتهم بالناس في التعاملات اليومية؛ فتراهم يأخذون ما ليس لهم بحق، ويعتدون على أموال الناس وأعراضهم وحرماتهم دون أن يجدوا في ذلك أدنى ألم أو تأنيب.

الوقوف عند مرحلة التأنيب: توازن بين الخوف والرجاء

بعض النفوس حساسة تتأثر بالخطأ، ويصل بها التأنيب إلى مرحلة جلد الذات، وتتحول حياتها إلى جحيم؛ ويتحول تأنيب الضمير من ضرورة شرعية وحاجة إنسانية إلى آلام مبرحة لا تترك لصاحبها فرصة لحياة طبيعية.
والمشكلة عند هؤلاء غياب قوله : «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[3].
إن الوقوف عند لحظات الخطأ وعدم السعي للإصلاح يسبب مشكلة كبرى تعرقل حياة صاحبها.
قال ابن رجب رحمه الله:
“القدر الواجب من الخوف، ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلًا محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل، لم يكن محمودًا، ولهذا كان السلف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه الذي أنساه القرآن، وصار صاحب فراش، وهذا لأن خوف العقاب ليس مقصودًا لذاته، إنما هو سوط يساق به المتواني عن الطاعة إليها، ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه، ولهذا المعنى عدّها الله سبحانه من جملة آلائه على الثقلين في سورة الرحمن.”
وقال سفيان بن عيينة: “خلق الله النار رحمة يخوف بها عباده لينتهوا.” أخرجه أبو نعيم.
والمقصود الأصلي هو طاعة الله عز وجل، وفعل مراضيه ومحبوباته، وترك مناهيه ومكروهاته.

ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته في الصدور وإجلاله مقصود أيضًا، ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونًا على التقرب إلى الله بفعل ما يحبه، وترك ما يكرهه، ومتى صار الخوف مانعًا من ذلك وقاطعًا عنه، فقد انعكس المقصود منه.
ولكن إذا حصل ذلك عن غلبة، كان صاحبه معذورًا، وقد كان في السلف من حصل له من خوف النار أحوال شتى، لغلبة حال شهادة قلوبهم للنار، فمنهم من كان يلازمه القلق والبكاء، وربما اضطرب أو غشي عليه إذا سمع ذكر النار[4].

التأنيب الفاعل: صفاته وأثره في الإصلاح

هناك تأنيب يضر صاحبه ولا ينفعه، وهناك تأنيب يؤتي ثماره على دين العبد ودنياه. ومن صفات هذا التأنيب:

  1. أن يدفع إلى التوبة والاستغفار، وأن يصلح ما أفسد، ويعتذر لربه، ويقدم الترضية المناسبة لمن أخطأ في حقهم، ويرد إليهم ما سلبه منهم أو خيرًا منه، وينتقل التائب من الضعف إلى القوة، ومن التخريب إلى الإصلاح، ومن الظلم إلى العدل والرحمة والإحسان.
  2. التجويد في العمل: يسعى إلى تلافي جوانب النقص التي وقع فيها، والسعي نحو الكمال.
  3. الراحة النفسية حين يتخلص المسلم من وخز الضمير بالإصلاح.

بعد أن يبدأ التائب طريقه بالندم وتأنيب الضمير، وينتهي بالعزم على عدم العودة إلى الذنب وإصلاح ما أفسد، يبدّل الله تعالى سيئاتهم حسنات.