ارتبطت نشأة الاستشراق وتطوره بظاهرتين كانت لهما أبعد الأثر في تحديد أولوياته وأجندته البحثية، الأولى ظاهرة التبشير بالديانة المسيحية في الديار الإسلامية؛ وهي المهمة التي تطلبت إدراكا لطبيعة الدين الإسلامي ومحاولة البحث عن الثغرات التي يمكن من خلالها توجيه الانتقادات إليه، وثانيهما الظاهرة الإمبريالية التي جعلت من فهم ثقافة الشعوب المحتلة ضرورة ملحة، وعلى مدار قرون خضع الاستشراق لمقتضيات هاتين الظاهرتين، غير أنه منذ انتصاف القرن التاسع عشر تقريبا أخذت الصفة العلمية للاستشراق في البروز أكثر من ذي قبل، وبدت النية متجهة لفهم الموضوعات الإسلامية فهما موضوعيا، وحدث ذلك التطور على يد المدرسة الألمانية الاستشراقية؛ ومرد ذلك أن ألمانيا لم يكن لها سوى مستعمرات محدودة في شرق أفريقيا سرعان ما صفيت بعد الحرب العالمية الأولى، ومع ضعف الحافز الإمبريالي ظهر في ألمانيا مستشرقين اتسموا ببعض الحيدة أمثال نولدكه وفلوجل وبروكلمان ممن قدموا خدمات جليلة للثقافة الإسلامية، وفيما يلي نقدم تعريفا بجهود كارل بروكلمان (1868-1956) في التأريخ للإسلام والثقافة العربية.
مختصر السيرة الذاتية
ولد بروكلمان في مدينة (روشتوك) على بحر البلطيق عام 1868، واشتغل والده بالتجارة لكنه تعرض للإفلاس فاضطر للعمل ببعض الأعمال الإدارية البسيطة في احدى المستشفيات، وفي دراسته الثانوية بدأت اهتماماته المعرفية في التشكل والبروز إذ شرع في تعلم اللغة العبرية كلغة اختيارية تحت تأثير معلمه فيليبي الذي كان له تأثير في مجرى حياته كما يقول، وبدأت ميوله نحو الشرق في التبلور عبر اطلاعه في المكتبة المدرسية على بعض المجلات الألمانية المعنية بنشر أنباء الاكتشافات الجغرافية والأثرية في آسيا وأفريقيا حيث بدا مأخوذا بالعيش في تلك المناطق التي يكتنفها السحر، ولعل هذا ما وجهه صوب دراسة اللغات الشرقية ولم يزل طالبا بالمرحلة الثانوية.
التحق بروكلمان بالجامعة عام 1886 في موطن رأسه روشتوك بعد حصوله على منحة دراسية بسبب تفوقه، وهناك تمكن من دراسة اللغات الشرقية فتعلم العربية والتركية إلى جانب التاريخ والشرقيات، وخلال هذه الفترة التقى بأستاذه نولدكه -المستشرق الشهير صاحب كتاب تاريخ القرآن- وربطته بأستاذه صلة وثيقة وتردد على منزله لتعلم اللغات والعلوم الإسلامية وبعد تخرجه وجهه نحو التخصص في دراسة التاريخ الإسلامي حيث نال بروكلمان الدكتوراه تحت إشراف عام 1890 وكان موضوعها “العلاقة بين كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير وكتاب أخبار الرسل والملوك للطبري”.
المسار الوظيفي لبروكلمان يمتد لأكثر من ستة عقود حيث شغل لسنوات طويلة منصب أستاذ اللغات السامية وأيضا الدراسات التركية في كثير من الجامعات في برسلاو وفي جامعة مارتن لوثر في مدينة هاللة -مركز جمعية المستشرقين الألمان ثم انتقل إلى برلين حيث تعين في معهد الاستشراق التابع لجامعة برلين، وظل يتنقل بين الجامعات الألمانية إلى أن تقاعد عام 1945 وبعدها اضطر للعمل بجمعية المستشرقين الألمان؛ وإليه يعود الفضل في الحفاظ على مكتبتها الضخمة من الضياع في أعقاب انتهاء الحرب إذ كان يشرف بنفسه على نقل الكتب إلى المخازن المخصصة لها رغم تقدمه في السن، واختتم حياته بالعمل كاستاذ في هاللة حتى وفاته عام 1956.
وكان لبروكلمان نشاطات علمية أكثر من أن تحصى فقد انتخب عضوا في عدد من كثير من جمعيات الاستشراق في ألمانيا وخارجها، فقد شارك بصفة منتظمة منذ أوائل القرن في مؤتمرات المستشرقين الدولية، وزار معظم البلدان العربية والشرقية ليجمع مادة علمية لمؤلفاته، ونال عضوية المجمع العلمي العربي بدمشق، وبفعل هذه المشاركات تكرست مكانته العلمية كأحد المختصين البارزين بالعلوم الشرقية، ومنح عام 1951 جائزة الدولة الألمانية تقديرا لجهوده العلمية.
جهوده في التأريخ للإسلام والآداب العربية
حقق بروكلمان أثناء اشتغاله بالبحث العلمي نتائج أو بالأحرى انتصارات باهرة قل أن يحققها دارس، فقد أفلح في تعلم عشرون لغة شرقية منها العربية والفارسية والتركية ولا نكاد نعلم من بين المستشرقين من استطاع أن يحصل تلك المعرفة باللغات الشرقية، وانعكس هذا على قائمة مؤلفاته التي امتدت لتشمل خمسمائة وخمسون مؤلفا متعددة اللغات، وثمة عوامل عديدة أسهمت في تحقيقه هذا الإنجاز الضخم ومنها: عزيمته وقدرته التي لا تبارى على العمل دون نصب، وذاكرته القوية التي تكاد تحتفظ بكل شيء منذ المرة الأولى لاطلاعها عليه، وميله إلى الترتيب الذي مكنه من السيطرة على مادة علمية هائلة دونها في عشرات الآلاف من البطاقات البحثية التي صنفها بعناية، وأخيرا القدرة على التعبير عن أفكاره بدقة في يسر وسلاسة بحيث استطاع غالبا الدفع بالمسودة الأولى إلى المطبعة دونما تدقيق أو مراجعة.
وهذا الإنتاج العلمي الغزير والمتنوع يمكن تصنيفه ضمن إطارين؛ الأول فقه اللغة ومن مؤلفاته في ذلك: (مفردات التركية الوسيطة حسب ديوان لغات الترك لمحمود الكاشغري)، و(الأساس في نحو اللغات السامية المقارن) وهو من أشهر كتاباته وفيه فسر المادة اللغوية السامية باستخدام مناهج التأريخ اللغوي بعد ترتيبها ترتيبا واضحا، و(العربية: دراسات في اللغة واللهجات والإساليب). والثاني التأريخ للإسلام وحضارته، وفي هذا المجال يبرز كتابيه تاريخ الأدب العرب، وتاريخ الشعوب الإسلامية، وهما أشهر مصنفاته وأكثرها أهمية ولا يزالان حتى يومنا هذا مقصد الدارسين للتاريخ الإسلامي والآداب العربية.
تاريخ الأدب العربي
ظهر هذا المؤلف الضخم للمرة الأولى في مجلدين بين عامي 1898 و 1902 ثم استكمل بذيل من ثلاثة مجلدات في السنوات ما بين 1937 و 1942. والكتاب في مجموعه ليس تاريخا للأدب العربي بالمعنى الضيق للكلمة، بل هو سجل للمصنفات العربية كلها سواء المخطوط منها والمطبوع، مضافا إليها معلومات عن حياة مؤلفيها، ومادة الكتاب مرتبة زمنيا إلى أربعة أجزاء.
الأول: يدرس الأدب العربي منذ نشأته إلى العصر الأموي.
الثاني: ويبحث في الأدب الإسلامي العربي في العصر الكلاسيكي منذ العصر الأموي إلى الغزو المغولي عام 1258.
الثالث: ويختص بدراسة تدهور الأدب العربي بعد الغزو المغولي مرورا بالفتح العثماني للمنطقة العربية وانتهاء بالهجوم الإمبريالي الغربي مع الغزو النابليوني للديار الإسلامية.
الرابع: ويشتمل على دراسة الأدب العربي الحديث منذ القرن التاسع عشر، ويعقب هذا الجزء حوالي ستمائة صفحة تضم عناوين المؤلفات العربية وأسماء مؤلفيها، وهو من أهم أقسام الكتاب على الإطلاق لأن بروكلمان لم يكتف بالإشارة المقتضبة لأسماء المؤلفين وإنما بسط محتويات كثير من الكتب، وأشار إلى النماذج الأدبية المناظرة، وعلق على أساليب المؤلفين ولغاتهم.
نهض بروكلمان بعبء تدوين المصنفات العربية بمفرده وهو العمل الذي تقصر عنه همة فريق من الرجال، لذا كان طبيعيا ألا يحيط بكامل التراث العربي سيما وتسقط منها بعض المؤلفات سيما وأنها المحاولة الأولى لفهرسته وتصنيفه، وألا تخلو مادته العلمية من الهنات بل والقصور في بعض المواضع، غير أن “مثل هذا العمل الضخم ما كان ليخرج إلى الوجود إذا تحرى صاحبه طريقة العمل الدقيقة البالغة الدقة” كما يعتقد رودي بارت بحق، ولعل هذا ما جعل الكتاب عرضة للنقد الشديد من قبل كريستيان زايبولد الذي حمل على بروكلمان وانتقد طريقته في إخراج الكتاب، ونظرا لقصور الكتاب فقد ظل دوما بحاجة إلى الاستكمال وممن نهض بعبء هذه المهمة الثقيلة الباحث التركي فؤاد سزكين الذي اكتشف آلاف المخصوطات ووضعها في مجلدين تمت إضافتهما للكتاب بوصفهما ملحقين له.
تاريخ الشعوب الإسلامية
اشتغال بروكلمان الواسع بالأدب العربي قاده منذ وقت مبكر إلى الاهتمام بالخلفية السياسية والحضارية لهذا الأدب، الأمر الذي دفعه بالضرورة صوب العلوم الإسلامية، ومن ثم تطلع منذ عام 1895 إلى الاطلاع على تاريخ الشرق، وكتب في ذلك عدة مقالات وبحوث نشرت قبيل ظهور الكتاب للمرة الأولى عام 1939، وقد ذاع صيته وترجم بعد انتهاء الحرب العالمية إلى عدة لغات كالعربية والتركية والانجليزية والهولندية.
يبحث الكتاب الذي يقع في خمس مجلدات في تاريخ الإسلام خلال ثلاثة عشر قرنا، ومن الواضح أن بروكلمان كان يدرك عظم المهمة لذا استهله بالتأكيد على أن محاولة التأريخ للإسلام ودوله وشعوبه هو مخاطرة كبرى لكنه يقدم عليها مستعينا بالجيد من محاولات زملائه السابقين.
اتبع بروكلمان في كتابه ذات التحقيب المتبع في (تاريخ الأدب العربي) فالجزء الأول يدرس أوضاع الجزيرة العربية ما قبل الإسلام ثم يصور حياة الرسول ويشرح تعاليمه- وهذا الجزء أكثر أجزاء الكتاب عرضة للانتقاد- ثم يختتم بالعصر الأموي، والجزء الثاني يعالج الإمبراطورية الإسلامية في عهد العباسيين منذ قيامها وحتى سقوطها على يد المغول، ويختص الجزء الثالث بدراسة الدولة العثمانية حتى القرن الثامن عشر، ويدرس الجزآن الأخيران موقف الإسلام في القرن التاسع عشر ثم الأوضاع في الشرق الأقصى والأدنى وشمال أفريقيا حتى الحرب العالمية، وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يقدم لنا بروكلمان تأريخا للنشاط الديني والأدبي والعلمي ويستعرض تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية الأمر الذي يجعل من الكتاب موسوعة تاريخية شاملة.
وعلى الرغم من الترحاب الكبير الذي قوبل به الكتاب في العالم الغربي إلا أنه لم يقابل بترحاب ممائل في العالم الإسلامي حيث وجهت إليه انتقادات عديدة؛ بعضها انتقادات منهجية تتعلق بإغفال ذكر المصادر وبعضها الآخر يدور حول موقفه المسبق من السيرة النبوية الذي دفعه للتشكيك في عالمية الرسالة الإسلامية والزعم أنها كانت موجهة للعرب وحدهم، ومتابعة جولد تسيهر في القول بتأثر العقائد الإسلامية باليهودية، والإنحراف في تأويل بعض الممارسات الإسلامية كالجهاد وغيره، ورغم هذه الانتقادات فإننا نعتقد أن أعمال بروكلمان جميعها قد سدت فراغا في المكتبة الإسلامية، وقدمت للدارسين مادة علمية لا يمكن التقليل من أهميتها في دراسة الإسلام وتاريخه وحضارته.