“قابلني ظـُهرًا، وضحىً، وعشيّة”؛ لا يزال استعمال هذه الألفاظ في تحديد الوقت والمواعيد سائدا في أيامنا هذه، ولعل البعض لا يعلم أنها من بقايا الزمن الحضاري الإسلامي، بل منذ أيام العرب الأولى. وإذا كانت تلك المواعيد في تداولها الآن تعني هروبا من الضبط وانفلاتا من الدقة؛ فإنها قديما كانت تحيل على مواعيد محددة وموصولة بتوقيتات معروفة معينة.
فقد عرف العرب الزمن وقدروا الوقت بتقسيمات واضحة، وزادهم الإسلام اتصالا بالمواقيت لضبط عباداتهم ومعاملاتهم، ودوّن مؤرخو الحضارة الإسلامية أحداثها بالساعات والدقائق. وما ذاك إلا لأن الوقت كانت له مكانة عظيمة في التراث العربي والإسلاميّ؛ فما من تكريمٍ يُقالُ في قيمة الوقت أكبرُ من الحديث النبوي الصحيح: “لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر” (رواه مسلم وفي صحيح البخاري بلفظ مقارب)، وإن كان إطلاق الدهر على الربّ مجازيًّا.
وكان الوقتُ عند العرب بهذه الأهمية قبل الإسلام؛ فقد قال الأمير الصنعانيّ في كتابه ‘التنوير شرح الجامع الصغير‘ عند شرحه للحديث السابق: “العرب كانت إذا نزل بأحدهم مكروه يسبّ الدهر، ويعتقد أن الذي أصابه فِعلُ الدهر، فكأن هذا كاللعن للفاعل، ولا فاعل لكل شيء إلا الله”.
وهذا موافقٌ لما نقله القرآن الكريم عن العرب من أنهم قالوا: “نموتُ ونحيا وما يُهلكنا إلا الدّهرُ” (سورة الجاثية: 24). وإذا كان الإسلام قد جاء بتصحيح معتقد العرب في مسبِّب الأسباب؛ فإنه لم يزد الوقت إلا تعظيمًا واحترامًا، ولذلك قرر في تعاليمه أن أول ما يُسأل عنه المسلم في آخرته: “عن عمره فيمَ أفناه؟” (حديث صحيح أخرجه الترمذيّ وغيره).
ولما كان الوقتُ على هذه المنزلة في ثقافة العرب قبل الإسلام وبعده، كان طبيعيًّا أن يكونوا على درجةٍ من التميّز في التعامل معه، والسبق في طرق تقسيمه وقياسه، والتعبير عن جريانه وتقلباته؛ لكن هل كانوا يحسبون وقتهم كما نفعل الآن؟ يقسمون يومهم وليلتهم أربعًا وعشرين ساعة؟ وهل كان أحدُهم يواعدُ الآخر عند الساعة الخامسة أو السادسة مثلًا؟ وإذا كانوا يفعلون ذلك فكيف كانوا يقيسونه؟ وما هي طريقتُهم في الإخبار به؟ هذا ما تبحثه مقالتُنا هذه مستعرضة أدلته النظرية والتاريخية.
أربعٌ وعشرون ساعة
كانت العربُ تقسّم يومها أربعًا وعشرين ساعةً كما يصنع الناسُ الآن، لكنّها لم تكن ساعاتٍ متساويةً كساعات اليوم، بل كان النهارُ عندهم اثنتيْ عشرة ساعة، والليل اثنتيْ عشرة ساعة، طال أحدهما أو قصر. وبناءً على هذا؛ فقد كانت تطولُ ساعةُ النهار في الصيف –مع طول النهار- حتى تبلغ أكثر من سبعين دقيقة بدقائق اليوم، وفي المقابل تقصرُ ساعةُ الليل إلى أقلّ من خمسين دقيقة، وفي الشتاء يحصلُ العكس، فتتمدد ساعات الليل وتتقلّص ساعات النهار.
ولعلّ أقدم نصّ عربيّ موثّق يذكرُ هذه الساعات هو ما رواه الإمام البخاري (ت 256هـ) ومسلم (ت 261هـ) وغيرهما من حديث أبي هريرة (ت 59هـ): “من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر”.
وقد اختلف الفقهاء في معنى الساعة في هذا الحديث: هل يعني ساعات النهار –التي نتحدّث عنها- أم إنه قصد الساعة بمعنى جزء من الوقت غير معيّن؟ وكان لهم ترجيحات ومناقشات لم يقل أحدٌ خلالها إن هذه الساعات لم تكن معروفةً زمن النبي ﷺ، بل هم مجمعون على وجودها وعلى العمل بها في ذلك الوقت، لكنهم اختلفوا في مقصد النبيّ ﷺ.
ثم اختلف الذين رأوا أن النبيّ ﷺ قصد ساعات النهار المعروفة؛ فقال الإمام النووي (ت 676هـ) -في شرحه لصحيح مسلم– معلقا على هذا الحديث: “واختلف أصحابنا: هل تعيين الساعات من طلوع الفجر أم من طلوع الشمس؟ والأصح عندهم [أنه] من طلوع الفجر”. وقال أيضًا: “ومعلوم أن النبي ﷺ كان يخرج إلى الجمعة متصلا بالزوال، وهو بعد انفصال السادسة.
وذكرُ اثنتي عشرة ساعةً من النهار أو الليل واردٌ في غيره من الحديث، لكنّ ما سبق كان المثال الأشهر والأصحّ، وهو الذي دارت حوله مناقشات الفقهاء التي يمكنُ استشفافُ تقسيمهم الوقت من خلالها. وما دار حول هذا الحديث وغيره من نقاشٍ دلّ على أنهم كانوا يستعملون هذا العدّ منذ زمن قديم، فيقولون: الساعة الأولى والثانية والثالثة… وهكذا.
ويؤيّد ذلك ما ذكره الواقديّ (ت 207هـ) في كتابه ‘فتوح الشام‘ من تحديد بالساعات لبداية ونهاية رحلة الصحابي عبد الله بن قُرط الأزدي (ت 56هـ) إلى المدينة، حين قدِم بكتاب من قائد جيوش الشام أبي عبيدة بن الجراح (ت 18هـ) يطلب فيه المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ت 23هـ) قـُبيل معركة اليرموك (وقعت سنة 15هـ). قال ابن قرط: “فركبت من اليرموك يوم الجمعة في الساعة العاشرة بعد العصر، وقد مضى من شهر ذي الحجة اثنا عشر يوما والقمر زائد النور؛ فوصلت يوم الجمعة في الساعة الخامسة والمسجد مملوء بالناس.
سماء عربية للساعات
وقد كان لكلّ ساعةٍ من ساعات العرب الأربع والعشرين اسم، وقد نقل هذه الأسماء أبو منصور الثعالبيّ (ت 429هـ) في كتابه ‘فقه اللغة‘؛ فسَاعَاتُ النَّهارِ: “الشُرُوقُ، ثُمَّ البكورُ، ثُمَّ الغُدْوَةُ، ثُمَّ الضُّحَى، ثُمَّ الهاجِرَةُ، ثُمَّ الظَهِيرَةُ، ثُمَّ الرَّوَاحُ، ثُمَّ العَصْرُ، ثُمَّ القَصْرُ، ثُمَّ الأصِيلُ، ثُمَّ العَشِيُّ، ثُمَّ الغُروبُ. وسَاعَاتُ اللَّيلِ: الشَّفَقُ، ثُمَّ الغَسَقُ، ثُمَّ العَتَمَةُ، ثُمَّ السُّدْفَة، ثُمَّ الفَحْمَةُ، ثُمَّ الزُّلَّةُ، ثُمَّ الزُّلْفةُ، ثُمَّ البُهْرَةُ، ثُمَّ السَّحَرُ، ثُمَّ الفَجْرُ، ثُمَّ الصُّبْحُ، ثُمَّ الصَّباحُ”.
قال الثعالبي: “وباقي أسماء الأوقات تجيء بتكرير الألفاظ التي معانيها متفقة”. هذا ما نقله الثعالبيّ عن العرب؛ والحقُّ أن بعض أسماء الساعات التي ذكرها لم أره في شيء من كلامهم في المعاجم ولا كتب الأدب والشعر.
وهكذا فإنهم كانوا في جزيرة العرب يعدّون ساعات النهار ابتداءً من شروق الشمس، وساعات الليل من بعد غروبها؛ فإذا قال العربيّ: سأقابلك عند الساعة الثانية من النهار، فإنه سيقابلك في نحو الساعة السابعة صباحًا بتوقيت اليوم، وإذا قال لك سأقابلك عند الساعة الواحدة من الليل، فذلك يعني بعد المغرب بقليل.
وقد كانت طريقتهم في حساب الساعات وعدّها دقيقةً جدًّا من خلال تتبع الظلّ في النهار، وغياب الشمس ثم الشفق ثم تدرّج الظلمة ليلًا. فمن كلامهم في الحساب الدقيق للساعات قول ابن بطال القرطبي (ت 449هـ) في شرحه لصحيح البخاري: “إن أهل العلم بالأوقات والحساب لا يختلفون أن الشمس إنما تزول في أول الساعة السابعة، وتقع الصلاة إذا فاء الفيْء ذراعًا، وذلك في الساعة الثامنة بعد مسير خُمسها في زمن الصيف، وبعد مسير نصفها في زمن الشتاء.
ومعنى كلامه أنه إذا فاء الفيء ذراعًا في الصيف فقد مضى من الساعة الثامنة خمسها، وإذا فاء الفيءُ ذراعًا في الشتاء فقد مضى من الساعة الثامنة نصفُها، لأن ساعات النهار تطول في الصيف وتقصر في الشتاء. وقد كان ابن بطال يناقشُ قولًا للإمام عبد الملك بن حبيب المالكي (ت 238هـ) يرى فيه أن الشمس تزول في الساعة السادسة من النهار. فكل هذا يدلُّ على دقتهم في حساب الساعات بالخُمُس والنصف والربع منذ زمنٍ قديم.
وأغلبُ الظنّ أن العرب إنّما أخذوا هذا التقسيم للساعات عن اليونانيين والمصريين، لشبهه الكبير بطريقتهم. فقد ذكر بيتر بوردمان -في بحث نشره بعنوان: ‘عدُّ الوقت: تاريخ مختصر للساعات الأربع والعشرين‘- أن اليونانيين القدماء كانوا يعدّون أوقاتهم على أربع وعشرين ساعةً، نصفها نهارًا ونصفها ليلًا “على الوصف المطابق لما كان يفعله العرب، وأنّ الفضل يعود إليهم في إعادة عدّ الساعات من منتصف النهار ثم منتصف الليل في القرن الثالث عشر، ذلك أنّهم رأوا العدّ أسهل من منتصف النهار لوضوح الساعة في وقت الظهيرة حيثُ تكون الشمسُ في أعلى مستوى لها في السماء”؛ وفق كلامه. وهو ما عبّر عنه العرب بكون الشمس حينها تكون “في كبد السماء”.
ويؤيّد القولَ بأن العرب أخذوا هذا التقسيم عن اليونانيين والمصريين؛ عزوُ قدماء الجغرافيين العرب -كابن الحائك الهمْداني (ت 334هـ) في كتابه ‘صفة جزيرة العرب‘- تقسيمَهم للوقت إلى هرمس الحكيم (مصريّ في الأغلب)، وإلى بطليموس (100 – 170م) وهو يونانيّ مصريّ.
التعبير عن الوقت
الليلة عند العرب تسبقُ النهار؛ أو على حد تعبير ابن مفلح الحنبلي (ت 884هـ) فإن “العرب تغلّب في التاريخ الليالي على الأيام”؛ فيبدأ اليوم العربيّ من غروب الشمس لا عند منتصف الليل، فلا يحارُ العربيّ كما يحارُ غيرُه فيقول: انعقد الحفلُ في الليلة التي بين الاثنين والثلاثاء الماضييْن، بل يقول: ليلة الثلاثاء، يعني بذلك بعد غروب شمس الاثنين.
ولذلك يصلّي المسلمون التراويح قبل أن يصوموا يومهم الأول من رمضان، ويسمُّون الليلة الأولى من شوال “ليلةَ العيد” قبل أن تطلع عليهم شمسُه. والبدء من حلول الظلام -لا من طلوع الشمس- موافقٌ لما نُسب إلى اليونانيين أيضًا؛ كما ذكره بيتر بوردمان في بحثه.
عرفنا أن العرب كانوا يسمون كل ساعة باسم يخصّها كالفجر والضحى والظهيرة، والغسق والشفق والعتمة؛ لكن كيف كانوا يعبّرون عن تلك الساعات؟ هل كانوا يستعملون الأسماء أم الأعداد؟ وكيف كانوا يجزّئون الساعة الواحدة؟
كان العربُ يستعملون أسماء الساعات في التعبير عن الوقت غالبًا، وقلّ أن يذكروا الأعداد؛ فكانوا يقولون: آتيك عند الهاجرة، ويشتقون منها: فيقولون: أتاني مهجّرًا، يعني في الساعة العربية الخامسة من النهار، أي: قبل الظهر! وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر (ت 73هـ) في الحج: “حتى إذا كان عند صلاة الظهر، راح رسول الله ﷺ مهجّرًا، فَجَمَعَ بينَ الظهر والعصرِ” (سنن أبي داود)
وقد غلب في استعمال العرب أن يذكروا هذه الأسماء دون العدد، لكنّهم كانوا يذكرون العدد أيضًا، ويستعملونه في أشعارهم وآدابهم، وفي كلامهم اليوميّ، وفي معاملاتهم الرسميّة. فمن ذكرهم عدّ الساعات في أشعارهم قولُ بشار بن برد (ت 169هـ) عادًّا الساعات، وذلك لا يكون إلا لوحدةٍ قابلةٍ للعدّ:
كأنِّي إِذا مَا أَطْمَعَتْ فِي لِقَائِهَا
عَلى دَعْوَةِ الدّاعِي إِلى جَنَّةِ الْخُلْدِ
أعُدُّ بها السّــاعَـــاتِ حَتَّى كأنَّهَا
أرى وجهَــها لا بل تمثّله عنــدي
ومن تحديدهم القديم للوقت بساعةٍ معدودة ما أورده الحافظ ابن عبد البر القرطبي (ت 463هـ) –في كتابه ‘التمهيد‘- من أن الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) كان “يرتقب الأوقات وتكون عنده علامات الساعات” لتحديد أوقات الصلوات. ونقل ابن عبد البر بسنده عن الإمام الأوزاعي (ت 157هـ) أن هذا الخليفة الأموي كان “يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة”.
تأريخ الأحداث بالساعات
ويؤيّد ذلك ما نقله كثيرٌ من المؤرخين -منذ زمنٍ مبكّرٍ جدًّا- من تواريخ ميلاد العلماء والخلفاء والأمراء والقادة ووفياتهم والأحداث العامة والخاصة، حيثُ كانوا يذكرونها باليوم والتاريخ والساعة والجزء من الساعة في بعض الأحيان. ولعلّ من أقدم نماذج ذلك ما ذكره المقريزيّ في كتابه ‘اتعاظ الحنفاء‘ من أن مولد الخليفة الفاطميّ المعزّ لدين الله (ت 365هـ) كان بعد مضيّ “أربع ساعات وأربعة أخماس ساعة من يوم الاثنين الحادي عشر من رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمئة”. فهذا تحديدٌ دقيق يعتمد على الساعة والجزء من الساعة!
ومن ذلك قول محيي الدين القرشي (ت 775هـ) -في ‘الجواهر المضية في طبقات الحنفية‘- إن السلطان الأيوبي المعظَّم ابن العادل “توفي في سَلْخ (= آخر يوم) ذي القعدة في الساعة الثالثة من يوم الجمعة سنة أربع وعشرين وستمئة بدمشق. ويسجل المؤرخ ابن تغري بردي (ت 874هـ) في ‘المنهل الصافي‘ أن السلطان المملوكي الظاهر جَقْمَق (ت 857هـ) “خلع نفسه من السلطنة في الساعة الثانية في يوم الخميس الحادي والعشرين من محرم سنة سبع وخمسين وثمانمئة”.
وفي تواريخ ولادة ووفيات العلماء؛ يخبرنا النعيمي الدمشقي (ت 927هـ) في كتابه ‘الدارس في تاريخ المدارس‘ أن قاضي القضاة بدمشق شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي (ت 767هـ) “وُلد في الساعة الأولى من يوم الاثنين تاسع شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمئة”. كما يحدثنا تاج الدين السبكي (ت 771هـ) في ‘معجم الشيوخ‘ أن العالمة آمنة بنت إبراهيم الواسطي “توفيت آخر نهار السبت السادس من ذي الحجة سنة أربعين وسبع مئة بدمشق، وصُلي عليها في الساعة الرابعة من يوم الأحد بالجامع المظفري”.
وفي استخدام الساعة في الأحداث العامة؛ يفيدنا المؤرخ العباسي الصفدي (ت بعد 717هـ) في كتابه ‘نزهة المالك والمملوك‘ بأن مدينة بلبيس المصرية حاصرتها سيول الأمطار سنة 716هـ، حتى “انقطعت طريق الشارع إلى بلبيس من باب مصر إلى باب الشام، وكان ذلك جميعه في ساعة واحدة ونصف ‘ساعة رملية‘ من اليوم المذكور”.
ويذكر المقريزي في كتابه ‘السلوك‘ أنه في يوم الاثنين 18 جمادى الآخرة سنة 787 “زُلزلت القاهرة في الساعة الرابعة زلزلة خفيفة”. كما يخبرنا الرحالة الأندلسي ابن جبير الكناني (ت 614هـ) بدقة تاريخ وصوله إلى مكة سنة 579هـ؛ فيقول: “ودخلنا مكة حرسها الله في الساعة الأولى من يوم الخميس الثالث عشر لربيع.. وهو الرابع من شهر أغشت (= أغسطس)” سنة 1183م.
ومن أظرف ما ذكره المقريزيّ في ‘المواعظ والاعتبار‘ الاستعمالُ الفاطميّ الرسميّ للساعات؛ فقد ذكر في أحداث سنة 395هـ بمصر أنه “قُرئ سجلٌّ بأن يؤذَّن لصلاة الظهر في أول الساعة السابعة، ويؤذَّن لصلاة العصر في أول الساعة التاسعة”. فهذا توثيق لاستعمال الساعات في المراسيم الرسمية، كما أن فعلهم هذا يُشبه ما تصنعه وزارات الأوقاف اليوم من جدولة لأوقات الصلوات وطباعة لإمساكيات رمضان، وغير ذلك مما يعين الناس على ضبط أوقات عباداتهم.
والفاطميون ذوو ميل إلى الانضباط في هذا المجال، فقد كانوا يعتمدون الحسابات الفلكية في دخول الشهر القمري لا رؤية الهلال. ومن غلوّهم في ذلك ما حكاه الذهبي (ت 748هـ) –في ‘سير أعلام النبلاء‘- من قتلهم في سنة 335هـ “الإمامَ الشهيد قاضي مدينة برقة محمد بن الحبلي”، لرفضه إصدار أمر للناس بالإفطار من رمضان دون رؤية هلال العيد بالعين. ثم علق الذهبي قائلا: “وكان هذا من رأي العبيدية، يفطرون بالحساب ولا يعتبرون رؤية”.
مواعيد بأجزاء الساعة
كان العرب إذا ذكروا العدد يقولون: عند مضيّ الساعة الأولى من النهار، أو عند مضيّ الساعة الثانية من الليل، أو عند مضيّ ثلاث ساعات أو أربع ساعات من النهار أو الليل وهكذا. ولم يكونوا يستعملون لفظ “الساعة الواحدة” مطلقًا، بل يقولون: “الساعة الأولى”. كما لم يكونوا يقسّمون الساعات إلى دقائق وثوانٍ مثلما نفعله اليوم، بل يقولون مثلًا: ثلاثة أرباع الساعة، وأربعة أخماسها، وسُبع الساعة، ونصفُ سبع الساعة… وهكذا.
قال ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) في كتابه ‘الأنواء‘ متحدّثًا عن الهلال ومُكثه في السماء ابتداءً من أول الشهر: “ويُعلم أنه [أي الهلال] يمكث في السماء ستة أسباع ساعة من أولها، ثم يغيب، ولا يزال في كل ليلة يزيد على مكثه في الليلة التي قبلها ستة أسباع ساعة”.
ولا يزال بعضُ هذه الاستعمالات موجودًا في كلامنا اليوم؛ فنقول: قابلني ظُهرًا، وضحىً، وعشيّة، بأسماء الساعات القديمة عند العرب. ونقول: الرابعة والنصف، والخامسة والثلث، والسادسة والربع، ولا نُجاوز ذلك إلى الخُمُس والسدس والسبع -كما فعل بعضُ أسلافنا- بل نستعملُ الدقائق.
وقد ذُكِرت الدقائق والثواني في مؤلفاتنا التراثية بالغة القدم، مثل كتاب ‘صفة جزيرة العرب‘ لابن الحائك الهمْداني؛ لكنه كان يذكرها كوحدات قياسٍ فلكيّة، لم تلبث أن أخذت مكانها وحداتٌ قياس زمنية لارتباط بعضهما ببعض. وسيأتي مزيد حديث عن ذلك.
وكانوا يستعملون وحدةً زمنيّة لا تزال موجودةً حتى الآن في بعض بلاد المغرب العربي مثل تونس، وهي “الدَّرج”. واستعمال الدرج/الأدراج في التعبير عن أجزاء الوقت قديمٌ جدًّا عند العرب، وهو أقدم بكثير من الدقائق، وقد استعاروه من أدراج الأفلاك التي كانوا يقيسون بها الوقت كما هو معلوم. ولذلك تجدُ الشاعر الفرزدق (ت 110هـ) يقول: أَقولُ لِمَغلوبٍ أَماتَ عِظامَهُ ** تَعاقُبُ أَدراجِ النُجومِ العَوائِمِ
فقد استعمل الفرزق “أدراج النجوم” (تحركاتها) وحدةً زمنيّة، كما هو شأنُ أهل العلم بالأفلاك والحساب في ذلك الوقت. وقال المرزوقي الأصفهاني (ت 421هـ) في كتابه ‘الأزمنة والأمكنة‘ إن “تعاقب النجوم [هو] أن يؤقت القوم لمقدار مسيرهم وقتاً، فتلك عُقْبَتُهم (= مدة رحلتهم)، فإذا قضوها ودخلوا في غيرها من أمثالها فتلك عُقبة ثانية؛ فإن دام ذلك منهم فذلك تعاقب أدراج الكوكب”. ثم لم تلبث الأدراجُ أن صارت تُذكر مقرونةً بالساعات، ومن جميل ذكرها في الشعر قول ابن العفيف التلمسانيّ (ت 688هـ ) :
خطبتُ وصْلَكمُ في جامعٍ لهوًى
وقمتُ مُبتدِرَ الساعاتِ والدُّرجِ
وقد جاء في بعض التواريخ أن الدَّرج صار في الأعصار التي بعد ذلك وحدةً متميّزة قابلةً للتقسيم، فكانوا يذكرون نصف الدرج وربعه وخمسه مثلًا، كما كان يوثّق به ابن تغري بردي (ت 874 هـ) الأحداث في كتابه ‘النجوم الزاهرة‘. ومن ذلك قوله إن السلطان المظفر أبا السعادات الشركسي (ت 833هـ) تولى الحكم “على مضيّ خمس درج من نصف نهار الاثنين تاسع المحرم سنة أربع وعشرين وثمانمئة”.
استخدامات موروثة
لم أجد من ذكر “الدّرج” وحدةً زمنيّة من أصحاب المعاجم المشهورة، خاصة المتأخرة نسبيًّا منها مثل ‘لسان العرب‘ و‘تاج العروس‘، بل عثرتُ به صُدفةً في كتب التاريخ والأدب. لكن هذه المعاجم أوردت “الدرجة” في مصطلحات الحسابات الفلك؛ فقد قال ابن منظور (ت 711هـ) في ‘لسان العرب‘ إن “كل بُرْج من بُرُوج السماء ثلاثون دَرَجة”. ويقول الفيلسوف الفلكي أبو الريحان البيروني (ت 440هـ) -في كتابه ‘تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة‘- إنه “يجتمع من البروج شهور ومن الدرج أيام”.
وقبل البيروني؛ أعطانا العالم الفلكي ابن جابر البَتّاني الحرّاني (ت 317هـ) -في كتابه ‘الزيج الصابئ‘- تحديدا للدرجة الفلكية؛ فقال إنها “تنقسم إلى ستين قسما تسمى الدقائق، وكل دقيقة منها تنقسم إلى ستين قسما أيضا تسمى الثواني، وكل ثانية منها تنقسم إلى ستين ثالثة، وما بعد ذلك فعلى هذا الرسم من القسمة إلى العواشر وما بعدها”.
ويختلفُ العرب اليوم اختلافًا كبيرًا في التعبير عن الساعة، خاصّة بين المشرق والمغرب العربيين. ففي تونس مثلًا؛ إذا لم تكن من أهلها وسألتَ أحدهم عن الوقت، فقال لك: “خمسة وسبعة”! فلعلّك تستغرب من جوابه وتقول: يا لهؤلاء القوم ما أعظم دقّتهم في تحديد الوقت! تظنّها: 5:07، ثم إذا عرفت طريقة القوم فهمتَ أنه قصد 5:35. ذلك أنهم يسمون كلّ خمس دقائق “دَرْجًا” فكان قصدُه: الساعة خمسة وسبعة أدراج؛ أما أهل المشرق العربي فيقولون: “خمسة ونصّ وخمسة”.
ولا أظنّ الدَّرْج المغاربيّ -بمعنى خمس دقائق- موافقٌ في طوله للدَّرْج في كلام الأقدمين؛ فالدقائق الخمس بعيدةٌ من التجزئة، وقد كانوا يقسمون الدّرج إلى أجزاء، كما نجد عند ابن تغري بردي في قوله إن “القاضي الشافعي أسرع في الخطبة والصلاة إلى الغاية حسبما كان أشار إليه السلطان بذلك [لأنه كان مريضا]، بحيث إن الخطبة والصلاة كانتا على نحو ثلاث درج رمل وبعض دقائق”، وهو ما يفيد بأن “الدرج” وقت بالغ القصر.
ونادرًا ما تجدُ من أهل تونس -ولعله في بلاد المغرب العربي كلها- من يقول: قابلني الساعة الثانية عشرة، بل يقول: “بش نتقابلوا نص النهار”، أو “نص الليل”، ويضيفون عليه الأنصاف والأرباع والأدراج، فيقولون: نص النهار وربع، ونص الليل ونص، ونص الليل ودرجيْن. ويندرُ أن يقولوا كذلك: الساعة “واحدة”، أو الساعة “ثنتين” كما يفعل المشارقة، بل يقولون: “مَضي ساعة” و”مضي ساعتين”، أو “ع الساعتين”. ولعلّ الطريقة المغاربية في التعبير عن الوقت أفصحُ وأقربُ إلى طريقة الأجداد.
ساعات الاستواء
وإذا كان قد غلب على طريقة العرب في تقسيم الوقت استعمالُهم الساعات الأربع والعشرين النهارية والليلية، المتفاوتة الطول بين الصيف والشتاء؛ فإنّ تاريخهم القديم لم يخلُ ممن يحسبُ وقته على أربعٍ وعشرين ساعةً متساوية (ستين دقيقة لكل منها) مثل ساعات اليوم بالضبط، غير أن هذا كان شبه محصور في علماء الفلك والجغرافيا، وكانوا يسمون هذه الساعات “ساعات الاستواء” أو “الساعات المستوية” أو “ساعة الاعتدال“، تمييزًا لها عن ساعة العامة التي تطول وتقصر بحسب الفصول الأربعة.
فقد قال ابن الحائك الهمداني -في كتابه المتقدم- إن مدينة البصرة العراقية “تطلع عليها الشمس بعد مطلعها على موضع الاستواء بساعتين مستويتين غير ثلث خمس ساعة”. ونلاحظ هنا ذكره لخطّ الاستواء وكان أحيانًا يميزه بقوله “خطّ الاستواء الطوليّ” مفسرا إياه بأنه “دائرة نصف نهار القبة” الفلكية. والمقصود بهذا الخط ما يُعرف اليوم بـ”خط الطول الأول” (خط غرينتش)!! الذي يقسّم الكرة الأرضية قسمين شرقي وغربي، وهو المعتمد عالميا لتحديد فروق التوقيت بين المناطق الزمنية.
وقد فصّل القول في ساعات الاستواء هذه ابن الحائك؛ فكان يذكرُ الدقائق والثواني وحداتٍ فلكيّة (وزمنيّة حُكمًا)، ويورد معها وحدةً أخرى لم تعد تُذكر، ولم تتحول إلى وحدةٍ زمنيّة في عصرنا كما هو حالُ الدقائق والثواني. وهذه الوحدة كانت تُسمّى “الإصبع”، والإصبع ينقسمُ إلى دقائق وثوان، ومن ذلك قوله عن الشمس إن “مبلغ ظلها في الانقلاب الصيفي ثلاث أصابع، وثماني عشرة دقيقة، وثمان وثلاثين ثانية من إصبع، وظل الانقلاب الشتوي من رأس الجدي بها سبع أصابع، وأربع وثمانون دقيقة، وثمان وأربعون ثانية من إصبع”.
ويزعم كثيرٌ من المعاصرين أن علي بن إبراهيم الأنصاريّ المعروف بابن الشاطر (ت 777هـ) كان أول من صنع آلةً تقيسُ ساعات الاستواء (ذات الستين دقيقة)؛ لكننّا نجد في كتبنا التراثية ما يدلّ على أنهم كانوا قادرين على قياس ساعات الاستواء قبل ابن الشاطر بقرون عديدة.
فمن ذلك أنّ أبا بكر الرازي الطبيب والفيلسوف المشهور (ت 311هـ) ذكر في كتابه ‘الحاوي في الطبّ‘ تشخيصات طبيّة ووصفات علاجيّة تعتمدُ على هذه الساعات، مثل قوله في تشخيص أعراضِ نوعٍ من الحُمّى أنه يستمرُّ في بعض الناس “ساعتين من ساعات الاستواء”؛ فدلّ ذلك على قدرته –وكذلك من سيطالع كتابه من أبناء زمانه- على حساب ساعات الاستواء بسهولة. كما أفاض البَتّاني في كيفية حساب الساعات وتحديد المواقيت بحسابات دقيقة؛ وقد اقتبسنا منه فيما سبق.
ولعلّ إنجاز ابن الشاطر الأهم يكمن في دقة آلته ودوامها، ويشهدُ لذلك أن ابن أيبك الصفدي (ت 764هـ) ذكر -في كتابه ‘الوافي بالوفيات‘- أنه رأى “أَسْطُرْلاب” ابن الشاطر (الأَسْطُرْلابُ آلة فلكية قديمة تكشف حركة الأجرام السماوية وتحدد الوقت والاتجاهات)؛ فأعجب به إعجابًا شديدًا حتى إنه نظم في ذلك شعرًا جاعلا آلة ابن الشاطر مضرب مثلٍ في حسن دورانها وانتظامه:
أفلاكُ شوقيَّ مُذْ تغيَّب شخصُكم
دارت على قُطْب الجَوَى فِي خاطري
لا يعـــــــتريها فَتْـــرَة فِي دورهـا
فَكَـَنَّهَا اسْـــطُرلابُ إبْـــنِ الشـاطر
كانت تلك حكاية أجدادنا مع الزمن وتوظيفهم لوحدته الأشهر “الساعة”؛ أما حكايتهم مع الساعة -التي هي الآلة المستخدمة في حساب الزمن وقياسه- وأنواع اختراعاتهم في مجالها.. فلعل لها حكايةٌ أخرى أعظمُ وأغربُ!!