كتب صديقنا العزيز الدكتور محمد عزب، الأستاذ المشارك بقسم الدعوة وأصول الدين بجامعة المدينة العالمية، عن ضرورة تجاوز تراث العلماء والمفكرين، وعدم البقاء في عباءاتهم. وضرب مثالاً لذلك بالشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد متولي الشعراوي والدكتور مصطفى محمود، رحمهم الله تعالى.. موضحًا أننا بحاجة إلى تجاوز تراث هؤلاء الأعلام إلى “أفق أرحب وأنسب لواقعنا”.
وبيَّن أن من يكتفي باستدعاء تراث هؤلاء الأعلام، كمن يكتفي باستدعاء تراث الأقدمين- مثل ابن تيمية– لكل مشكلة وفتوى ولكل حادثة.. وأن هؤلاء مخطئون في هذا الاستدعاء.
ثم تطرق صديقنا العزيز إلى الشيخ الغزالي تحديدًا، بالقول: “غِيرةُ الغزالي وحَميَّته، تجاوزها الزمن؛ فقد كان الغزالي يبحث عن كشف مخططات. اليوم بانت المخططات، وظهرت، وصارت على رءوس الأشهاد؛ فلا حاجة للتحذير منها، بل الحاجة الأهم هي في كيفية التعاطي مع الحالة التي حلَّت”.
ثم قال، متوقعًا ردود الفعل على دعوته هذه: “في يقيني، أن هذا سيُغضِب الكثيرين؛ لكن التحرك نحو الأمام له ترسٌ مختلف عن محركات الشيخ الغزالي، وهموم زمنه؛ التي كان يتصدى لتفريجها، أو توضيح أسبابها”.
ثم لفت د. عزب إلى أن هذا التجاوز، ليس تقليلاً من قيمة ما كتب الشيخ الغزالي؛ فهو: “سيد في هذا الباب؛ إنما كان رحمه الله يقدم فكرًا؛ والفكرُ من طبيعته يناسب المرحلة، وعادةً لايتجاوزها، وإنما تتجاوز الأفكارُ الأزمنةَ إذا كانت أفكارًا رائدة، لا معالجات لانحرافات الزمن الفكرية”. مضيفًا أن: “إحدى علامات المرض في زمننا أنه لم يُنتج شخصية كشخصية محمد الغزالي تحسن صك الأفكار، وتجيد وضعها في قالب يُقبل عليها طلاب المعرفة”.
والحقيقة، أنني لا أجدني مختلفًا كثيرًا مع الصديق العزيز د. محمد عزب، بل أشكر له أمرين: غيرته على الإسلام، وتألمه من واقع المسلمين، ورغبته في تجاوز هذه الأزمات التي ألمَّت بنا من كل جانب.. وجرأته في إعلان رأيه؛ لأن البعض- للأسف- قد ينحاز للأشخاص أكثر من انحيازه للأفكار؛ وبالتالي فإن هذا يقف مانعًا من مناقشة الأفكار بحرية وبشجاعة، ويجعل القائلَ يحسب الحسابات لردود الأفعال؛ فيتباطأ ويتأخر، وربما يقعد ولا يعلن!
غير أنني أرى أن ما طرحه د. عزب يحتاج لبعض التوضيح..
إن تجاوز تراث المصلحين والعلماء والمفكرين، قديمًا وحديثًا، أمرٌ ذو أهمية قصوى ونحن نتدافع مع أفكار وواقع لم يكن مطروحًا أمام من سبقونا..
وما دام الفكر ابن الواقع؛ من حيث إنه- أي الفكر- يستجيب للواقع ومشكلاته وتحدياته، ويحاول أن يصلحه ويغيّره، ولا ينفصل عنه.. فإن هذا الفكر ينبغي أن يتغير مع الواقع إذ يتغير..
غير أن الفكر ليس “ابن الواقع” بطريقة خالصة؛ أي ليس قائمًا كله على التغير والتطور.. لسبب بسيط، وهو أن الواقع نفسه ليس كله متغيرًا ومتطورًا..! وليس أدل على ذلك من أن كثيرًا من مشكلات البشرية منذ أن عرف الناس الفكر المنظم، منذ عهود سقراط وأفلاطون وأرسطو، ما زالت تمثل مشكلاتٍ راهنةً، ويبحثها العلماء والمفكرون كأنها بنت الساعة..!
وهذه القضية في غاية الأهمية؛ لأنها تجرنا إلى قضية “الثابت والمتغير” في الفكر عمومًا.. وفي الإسلام خصوصًا.. فليس القول بالتجديد والتطوير، مدعاةً لطرح القديم نهائيًا وإهالةِ التراب عليه، كما يزعم خصوم التراث، من العلمانيين الذين ما فتئوا يهاجمونه، ويصورونه على أنه حجر عثرةٍ تَحول دون الاشتباك مع العصر والانطلاق للمستقبل..
هذه واحدة..
أما الثانية.. فهي أننا قبل الحديث عن “التجاوز”، علينا أن ننشغل بـ”الاستيعاب”..
إنني أزعم أننا لم نستوعب، بالشكل الكافي، هذه المشاريعَ الفكرية والإصلاحية التي قدمها الغزالي وبن نبي وبيحوفيتش وجلال كشك والمسيري والبشري، ومن قبل: الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والنورسي وعلال الفاسي وابن باديس والإبراهيمي.. وما زالت هناك مساحات كثيرة من هذه المشاريع نجهلها، أو لم نفهمها كما ينبغي..
إننا نكاد نعرف منها قشورًا وأفكارًا معينة، دون الاستيعاب الدقيق، والإحاطة الكلية، والمعرفة العميقة.. وبالتالي، قد نتصور أن هذه المشاريع تجاوزها الزمن، وتخطَّاها الواقع.
ولو أخذنا الشيخ الغزالي كمثال؛ فيمكن أن نقول إن الشيخ رحمه الله قدَّم مشروعًا رائدًا في فهم الإسلام، والتمييز في ذلك بين القرآن والسنة وما تلاهما من أفهام العلماء واجتهادات البشر.. ودعا لإنصاف المرأة من التقاليد الموروثة.. وإلى تعظيم قيمة الشورى ورفض الاستبداد، ورفض القول بأن الشورى غير مُلزِمة.. وإلى إنصاف السُّنةِ نفسِها، بالالتفات لنقد المتن كما نهتم بنقد السند.. وإلى إعلاء قيمة النص القرآني في تكوين العقل المسلم.. وإلى الاهتمام بالأولويات والأصول والكليات وعدم التيه في الفروع والجزئيات والصغائر.. كما دعا إلى فهم العقيدة فهمًا يبعث على الخشية، لا الاشتغال بمعارك كلامية وفلسفية تَزيدنا حيرة وبلبلة.. وإلى الاقتداء بالسيرة النبوية باعتباره النموذج العملي.. وإلى إبراز الجانب العاطفي في الإسلام، وتخليصه من أوهام وانحرافات تأثرت بشطحات من هنا أو هناك، وقعدت بالعقل المسلم عن الاشتباك مع الحياة، والاضطلاع بما أُوكل إليه من عمارة الأرض.. إلى غير ذلك من محاور وركائز ترسم طريقًا واضحَ المعالمِ والأصول في التجديد والنهوض بواقعنا المتردي، وتُبين رؤيةً متميزة في الانعتاق من أزماتنا..
فهل يزعم أحد أننا استوعبنا ذلك كلَّه تمامًا، حتى ننشغل بتجاوزه؟!
أم إن سببًا رئيسًا من مشكلاتنا أننا لم نستفد من جهود من سبقونا، ولم نستوعب مشاريعهم؟!
ومع هذا، فلا أقول إن آراء الأعلام، الذين سبقونا من العلماء والمفكرين والمصلحين، تصلح كلها لزماننا، أو إنها كلها صواب لا خطأ فيه.
إنهم بشر، يجوز في حقهم الصواب والخطأ.. وواقعنا ليس واقعهم بشكل متطابق..
لكن، لتكن الأمور واضحة.. والأفكار منضبطة.. حتى لا نخوض معارك قبل أوانها، أو نقول كلامًا قد لا يُفهم على حقيقته.
وأكرر الشكر والتحية للصديق العزيز.