حددت مجلة “المسلم المعاصر” عدة مصادر للاجتهاد وصنفتها ما بين مصادر أولية (الوحي) وثانوية (ما يتعلق بالإنتاج الفكري للعقل البشري مثل التراث والنظريات العلمية, والواقع..). وطرحت في ذات الوقت منهجية مقترحة للتعامل مع هذه المصادر جاءت تحت عنوان -كيف نتعامل..؟- بما يحقق غايات الاجتهاد المعرفي وأهدافه. وهو ما سنتناول جانبًا منه هنا.
طرحت المجلة فيما يتعلق بالقرآن بوصفه مصدرًا أوليًا للاجتهاد المعرفي سؤالًا حاولت أن تجيب عليه معرفيًا وهو: كيف نتعامل مع القرآن؟ وفي هذا الصدد اهتمت المجلة بمنهاج التعامل مع القرآن, وانشغلت بمنهجية “التفسير الموضوعي” الذي رأت فيه تلبية للضرورة الحضارية لواقع الأمة، كما رأت ضرورة تجاوز التفاسير التراثية التي ركزت على جوانب جزئية في القرآن، سواء ما ارتبط بالبعد التاريخي، أو اللغوي أو التشريعي بمفهومه الضيق. وأشارت إلى عدة فوائد حضارية واجتماعية وثقافية لهذا النوع من التفسير ومنها:
1- أنه – أي التفسير الموضوعي – يضع حدًا للاختلاف بين العلماء في فهم كثير من المفاهيم والحقائق القرآنية، ذلك أن آراءهم وتصوراتهم عن حقائق القرآن يعتريها التجزيئية وعدم الشمول.
2- كما أن موضوعات القرآن لم تقتصر على الجوانب التي برع فيها علماء الشريعة أي: التشريع والأحكام الفقهية واللغة والبلاغة..بل تتضمن أُسسًا في علوم السياسة والاقتصاد وعلم النفس والاجتماع والتربية… وبهذا يتطلب التفسير الموضوعي مشاركة شريحة واسعة من علماء الأمة على اختلاف تخصصاتهم في فهم القرآن والكشف عن جوانب هدايته.
3- إن معرفة التفسير الموضوعي تؤدي إلى معرفة الحقائق القرآنية في مسائل الكون والمجتمع والحياة والإنسان، مما يجعل إمكانية استنباط نظريات متكاملة فيها قائمة.
4- تحقيق الوحدة في منهج تفسير القرآن وفهمه، فإن شأن المؤسسات التعليمية أن تفصل في مساقاتها الدراسية بين التفسير التحليلي والتفسير الموضوعي، وترى فيهما نمطين منهجيين مختلفين في حين أن المنهجين يتحدان في تجلية حقائق القرآن وبلورتها، فالتفصيل والتفريع يتم في إطار وحدة الموضوع الذي يتعامل معه المفسر، وبذا يتم التخلص من التجزيئية في فهم القرآن. 5- يهتم التفسير الموضوعي – أيضًا – بقضايا الواقع ومعضلاتها ويعمل على تقديم حلول لها من النصوص القرآنية … وهذا يتطلب أن يقوم كل مفسر على تأصيل حقائق القرآن في واقع عصره وواقع مجتمعه مما يدفع إلى الاجتهاد والتفكير الحر والعمل المنضبط وفق الأسس المعتمدة في فهم القرآن والتفسير.
حددت – أيضًا – المجلة عددًا من القواعد الأساسية والمنهجية في التعامل مع النص القرآني وتفسيره منها:
– الجمع بين الرواية والدراية.
– تفسير القرآن بالقرآن.
– تفسير القرآن بالسنة.
– الانتفاع بتفسير الصحابة والتابعين.
– الأخذ بمنطق اللغة.
– مراعاة السياق.
– الوعي بأسباب النزول والاستيثاق من وجود العموم.
– اعتبار القرآن أصلًا يُرجع إليه.
– تحقق أهلية المؤوِّل للاجتهاد, والتأويل [للقرآن] نوع اجتهاد، بل هو أحد أكبر ميادينه – باستجماعه شروط المجتهد.
– قابلية النص للاجتهاد: بألا يكون من أمور الغيب – وهي بطبيعتها مما لا قدرة للعقل البشري على الخوض فيها أو في كنهها.
– أن يرجع المؤَوَّل به إلى معنى صحيح في الاعتبار, أي موافق لوضع اللغة، أو عرف الشارع، أو عرف الاستعمال وقت نزول القرآن.
– أن يكون الدليل المعضدُ/المرجِّحُ حجًة راجحًا في نفسه وهذا الدليل هو القرينة.
– أن يكون التأويل الذي يصار إليه منسجمًا وملتئمًا ومتماشيًا مع السياق الذي ورد فيه النص موضع التأويل؛ إذ قد يكون المعنى المؤَوَّل إليه صحيحًا في نفسه ولكن النص بسياقه – أي بنظمه وعموده – لا يدل عليه.
ومن المسارات الفكرية التجديدية التي أسست لها المجلة معرفيًا هي “المرجعية المعرفية للقرآن الكريم”، والتي يقصد بها اعتبار القرآن مصدرًا لاكتشاف التصورات القرآنية والمفاهيم والقيم لبناء منظور حضاري يعمل على إعادة إنتاج العلوم والمعارف الإنسانية من ناحية، ومعيارًا وتقويمًا للعلوم والمعارف الإنسانية الغربية عند التعامل معها وتلقيها من ناحية أخرى.
وفي هذا المجال تحدد المجلة “وظائف الوحي” لبيان مساحته التداخلية في بناء العلوم الإنسانية ودوائر عمله وتشير في ذلك إلى ما يلي:
1- يستقل الوحي بتقديم معرفة جاهزة حول قضايا معينة بحيث يكون دور الإنسان فيها هو التلقي والفهم دون تدخل في تحديد عناصر هذه المعرفة أو اختيار موضوعها أو التعديل فيها بالزيادة والنقصان…مثل المعارف المتعلقة بموضوع “عالم الغيب”.
2- يستقل الوحي – كذلك – ببيان مجموعة من المعارف التي تتصل بتنظيم حياة الإنسان من الناحية الأخلاقية والتشريعية، وتقدم له في صيغة مجموعة من المبادئ والأوامر والنواهي مثل تلك الأحكام المتعلقة بالأحكام الشرعية التي تكفل الوحي ببيانها، ودور الإنسان هنا التلقي للامتثال لا غير.
3- قد لا يكون للوحي هذه السلطة المطلقة في تقديم معرفة في شكل أحكام تشريعية نهائية، ولكنه يظل سلطة مرجعية يهتدي به في تحديد قواعد السلوك فيما لم يأت فيه نص صريح، وذلك من باب الاجتهاد وفق القواعد المقررة.
وفيما يتضح من علاقة الوحي بالعلوم الإنسانية تؤكد المجلة على الجوانب المعرفية التالية:
1- الوحي والعلوم الإنسانية كليهما يعالج موضوعًا مشتركًا هو عالم الإنسان بكل أبعاده المادية والنفسية والتنظيمية والأخلاقية…تتحدد طبيعة هذه العلاقة في اتجاهين، الأول: يخص بعض التوجهات والقيود المنهجية التي يفرضها الوحي؛ لتقترب هذه العلوم من الصواب. والثاني: يخص المعلومات الجاهزة التي يكشف عنها الوحي والتي من شأنها أن تعين هذه البحوث.
2- إن شمولية الوحي واستيعابه لمختلف النشاطات المادية منها والروحية من شأنه أن يفتح أفاقًا واسعة أمام العلوم الإنسانية؛ لتخرجها من إطارها المادي الضيق الذي وجدت فيه والذي انتهت معه إلى اختزال الإنسان في جوانبه المادية مع إغفال جوانبه الروحية والنفسية والعناصر الجمالية فيه.
3- إعادة الاعتبار للأنساق المعرفية التي تعيد الاعتبار للقيم وتعتمد الدين مصدرًا معرفيًا. وهذا يعني تغير الصورة التقليدية لمفهوم العلمية في هذه العلوم، وتتحرر العلمية من سلطة النزعة التجريبية كما تمارس في العلوم الطبيعية والفيزيائية البحتة.
4-في أفق التوحيد – أيضًا – الذي يفرضه الوحي تتحول العلوم الإنسانية من مهمة تبرير مشروعية التصورات المادية حول الإنسان والمجتمع… إلى العمل على اكتشاف القدرة الإلهية المبدعة في الإنسان والمجتمع والحياة.
5- إن تعاليم الوحي يمكن أن تقوم بدور أساسي في إنقاذ العلوم الإنسانية من الوجهات الإيديولوجية حيث تحولت هذه العلوم عن وظيفتها العلمية إلى تكريس نتائجها لخدمة مصالح طبقية وقومية واستعمارية.