إن تجويد العبادة هي مطية الإنسان وسواعده التي يسير بها إلى الله تعالى. والإيمان يقوم على التصديق والعمل الصالح، فالمؤمن لا بد أن يكون مسلمًا أولًا؛ إذ لو لم يكن مسلمًا لم يصلح أن يكون مؤمنًا؛ لأنه لم يحقق الشهادة، فهناك من يصدق بوجود الله تعالى وأن محمدًا عبده ورسوله؛ ولكنه يرفض أن يدخل في الإسلام أو ينطق الشهادة، وقد رأينا الكثير من هؤلاء في بلاد الغرب، ولا عجب لأن آيات الله في كونه لا تترك مجالًا للشك في وجوده.

ولكنه سبحانه من بيده الهداية والضلال، يهدي من يشاء ممن يبحث عنه ويسعى لاتباع الحق، ويضل من لا يبالي، واختار الدنيا على الآخرة، قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ ‌أُمَّةً ‌وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل: 93]، وعلى المسلم أن يقوم بالعبادة التي من أهمها أركان الإسلام؛ وهي الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصوم، وحج البيت لمن يستطيع، وهذا من أول الدروس الإسلامية التي تدرس للطلاب؛ حيث هي الأساس في التربية الدينية، قال : (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان) [1].

فالإسلام نفسه مبني على عبادة، ولا يسع المرء أن ينكر أيًّا من هذه العبادات الأساسية، وإن فعل فإنه يخرج من ملة الإسلام، واعتبر العلماء تارك الصلاة جاحدًا بها كافرًا، وحارب سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه تاركي الزكاة؛ لردتهم عن الإسلام، وامتناعهم عن القيام بواجباته، والله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه العزيز أنه خلقنا لنعبده، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا ‌لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، ولولا العبادة لاستوى الصالح والفاسق؛ فإذن على المرء أن يمكن الإيمان وتوحيد الله في قلبه، ثم يعبد الله على بصيرة وعلم.

وتعلم العبادات والدراية بتفاصيلها أمر مهم لكل مسلم؛ حتى يستطيع أن يقيمها على الوجه الصحيح الذي يريده الله منا، والذي جاء به نبيه محمد ؛ ولذا كان إتقان العبادة وتجويدها من أهم ما ينبغي أن يشغل به المسلم اهتمامه ووقته، فالعبادة غير المتقنة ربما لا تقبل من الله تعالى، ودليل ذلك ما جاء في قوله : ((رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوعُ والعطشُ، ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامه السهرُ))[2]، وقال: ((إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، حتى قال: إلا عشرها))[3].

وهذا يدل على أن إتقان وتجويد العبادة مطلوب؛ وعدمه ينقص من أجر العامل أو يذهبه بالكلية، والله تعالى يحب الإتقان في العمل، قال : ((إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه))[4]، والإتقان في كل شيء يزيد من جودته وقيمته، فتجد حتى في حياتنا العادية أن الناس تقدر من يتقن عمله، وتقدر السلعة المتقنة الصنع، وتعلي من قيمتها، وكذلك العمل الصالح المتقن أفضل عند الله وأكثر قبولًا.

والعمل إما أن يكون واجبًا، أو مستحبًّا، أو مباحًا، أو مكروهًا، أو حرامًا، والعبادة إما أن تكون عمل طاعة أو ترك معصية، ولا بد فيها من متابعة النبي مما ذكر في القرآن الكريم أو السنة المطهرة، فلا تُقبل عبادة إن كانت من نسج البدع والخرافات، أو يخالطها شيء من نقص أو زيادة في الدين، ولا يسع المرء أن ينظر ويأتي من عنده بما لم يشرعه الله، ومثال ذلك المداومة على صلوات أو أوراد معينة بكيفية معينة لم ترد عن النبي ؛ مثل صلاة التسابيح، قال : ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ))[5].

وحرم الله تعالى التقول عليه دون علم، حيث قال: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ‌الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33]، فلا يجوز للإنسان أن يحدث في دين الله ما ليس فيه.

والجهل بالدين وبالكيفية الصحيحة لأداء العبادة يخل بإتقانها وصحتها، وينتج عنه أن يضيع الإنسان وقته وجهده في عمل رد وعبادة غير مقبولة؛ ولذا علينا الحرص على تعلم الدين والكيفية الصحيحة للعبادة.

وحريٌّ بالمسلم أن يحسن عمله، ويقدم منه أفضل ما لديه لله تعالى؛ وذلك لتعظيمه وتقديسه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ومثال على ذلك- ولله المثل الأعلى- لو تخيلت أنك ستقابل رئيس دولة فمن الطبيعي أنك ستلبس أحسن الثياب، وتختار هدية من أغلى ما يكون لتقديمها له حتى تليق به، ولا تشعر بالحرج منها، ولو أن مديرًا مثلًا يريد أن يعين موظفًا وتقدم له مجموعة من العاملين، فقام بتكليفهم بأداء عمل ليمتحنهم ويختار أفضلهم، فمن سيختار؟ لا بد أنه سيختار من أتقن عمله، وكان نشيطًا فيه ومتواضعًا ومطيعًا، وهذا في بني البشر الذين هم مجرد عبيد لله، فما بالك إن كان هذا العمل لمليكهم وسيدهم؟!

فليستحضر الإنسان كل ذلك في قلبه ليساعده على النشاط في العبادة، وإتقان عمله على أفضل وجه ليقبله الله منه، قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ ‌نَتَقَبَّلُ ‌عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [الأحقاف: 16]، فهم أحسنوا العمل فقبله الله منهم، وتجاوز عنهم، وأدخلهم الجنة برحمته وكرمه.

عوامل تجويد العبادة

ومما يساعد على تجويد العبادة طلب العلم الشرعي، فبه يعرف المرء كيفية العبادة الصحيحة والصورة التي أداها بها النبي ، ويعرف أنواع العبادات وأحكامها وأركانها وسننها في الحالات المختلفة؛ فمثلًا في سجود السهو نعرف في أي حال يكون السجود قبل السلام أو بعده، وفي الصوم نعرف ما يفطر مما لا يفطر، وهكذا، وكذلك يتعلم الطالب أصول الفقه ومقاصد الشريعة، وكيفية التعامل مع الأمور المستجدة وفقه النوازل، ويتعلم الأحكام والحدود، والآداب الإسلامية، وسنة النبي القولية والفعلية؛ ولذا فإن العلم الشرعي هو الأساس للتلقي، وقبول الدعوة والقيام بواجباتها، وبه يستنير قلب المؤمن، وتزكو نفسه، وتصحح عبادته ونيته، ويزيد إخلاصه لله تعالى.

ومن العوامل التي تساعد على إتقان العمل توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، فلا يقبل الله العبادة من مشرك حتى ولو كانت متقنة، وكانت على ما جاء به النبي .

والتوحيد هو الأمر الأول في الإسلام والديانات السابقة، وهو أول ما دعا إليه النبي قومه، وذلك رغم أنهم كانوا يعبدون الله ويتقربون إليه بذبح القرابين لآلهتهم؛ فهم إذن لم ينكروا وجود الله ولا ألوهيته؛ ولكنهم رفضوا عبادته وحده، فجعلهم ذلك كفارًا، وحكم الله عليهم بالخلود في النار، وهذا يظهر أهمية التوحيد وخطورة الشرك، قال تعالى عنهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‌وَلَا ‌يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‌وَلَا ‌يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا } [الفرقان: 3].

وتقوية التوحيد في قلب الإنسان يساعده على إتقان العبادة. فتوحيد الربوبية يجعله يؤمن بأن الله وحده من بيده أرزاقنا ومصائرنا وحياتنا ومماتنا، فلا أحد يملك لنا نفعًا ولا ضرًّا من دون إرادته ومشيئته، ولا رزق يصلنا سوى ما كتبه لنا، ولا أحد يستطيع أن يزيد فيما كتبه لنا أو ينقص منه شيئًا.

قال : ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجفت الصحف))[6].

وتقوية توحيد الربوبية في قلب الإنسان يقوده إلى توحيد الألوهية، فإن آمن بأن رزقه ومصيره إلى الله وحده لم يصرف العبادة لغيره، وأصبح قلبه متعلقًا به وحده، فيخاف سخطه كما يرجو رحمته وعفوه؛ وذلك لإيمانه بأن بيده زمام الأمور، والأمر كله إليه، فلا يرى معه غيره، ولا ينظر لسواه في السؤال، ويحاول التقرب إليه بكل ما يستطيع، فيحسن عبادته ويتقنها حتى ينال رضاه وعطاياه؛ لأنه الرازق ومن بيده الخير كله، وهذه العبادات القلبية من خوف ورجاء ومحبة مطلوبة في الإسلام، وقد ذكرها الله تعالى كثيرًا في كتابه العزيز؛ لأنها هي التي تدفع الإنسان إلى القيام بالعبادة وإتقانها، قال تعالى: { قُلْ ‌مَنْ ‌يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [الأنعام: 63].

وأما توحيد الأسماء والصفات فينبغي أن يكون هو نقطة البداية؛ وذلك لأن به يتعرف الإنسان على ربه، وعلى أسمائه وصفاته العلى، فيتعلق قلبه به، ويقتنع بأنه هو من يستحق العبادة لما يختص به من صفات ليست لغيره، فيدفعه ذلك إلى توحيد الربوبية، ومن ثم توحيد الألوهية، قال تعالى: { ‌فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11].

ومما يساعد على تحسين العبادة الاستعانة بالله ودعائه للتوفيق فيها، فكم من ساعة يكسل فيها الإنسان عن الصلاة، ولا يستطيع القيام إليها من تعب أو فتور أو نعاس! وما أن يدعو الله أن يعينه عليها حتى تجده قام ليؤديها بنشاط وحماس؛ ولذا دعا النبي الله تعالى بأن يعينه على حسن عبادته، فهو لم يطلب العون على العبادة فحسب؛ بل وعلى حسنها؛ مما يدل على أن تحسين العبادة وإتقانها هو المطلب، فكم من عابد لا تقبل عبادته إما لخلل في طريقته، أو سوء نيته، أو بدعته إن عدم إتقانها وتجويدها! ولذا علينا بدعاء رسول الله : ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))[7].

فالتوفيق في العبادة من الله، وهو الذي بيده الهداية والضلال، وهو من يستطيع تقليب القلوب إلى الخير أو الشر، قال : ((ما من قلب إلا وهو معلق بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، والميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا، ويخفض آخرين، إلى يوم القيامة))[8]؛ ولذا نسأله الهداية في كل يوم، وفي كل صلاة، وفي كل ركعة حين نقرأ في سورة الفاتحة: { اهْدِنَا ‌الصِّرَاطَ ‌الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]

وجاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم))[9]. فعلينا أن نطلب منه الهداية والتوفيق إلى العمل الصالح وإتقانه وقبوله، كما علينا استحضار معية الله تعالى في العبادة؛ لأنها ترفع درجة الإنسان إلى مرتبة الإحسان التي يتوق إليها كل سالك، وقد وصفها النبي بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[10].

ومما يساعد المرء على الاستيقاظ من غفلته والجد في طلب الآخرة الابتلاء والشدائد التي تمر به في حياته، ومثال لذلك المرض والفقر وهجر الأحبة، والتغرب عن الوطن، وموت الأبناء، وفقدان المناصب والسقوط في الامتحانات، وخذلان الأصدقاء والناس، والانعزال والوحدة وغيرها من الابتلاءات التي تصيب الإنسان؛ ولذلك فإن في البلاء رحمة إن كان سيجعل المرء ينتبه للآخرة ويشمر لها؛ ولذا نهى النبي عن سَبِّ الحُمَّى، في قوله: ((لا تسبي الحُمَّى؛ فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد))[11].

وكم من إنسان كان المرض سببًا في هدايته وحسن خاتمته! ومثال لذلك المليونير الأسترالي من أصل لبناني الذي أصابه السرطان، فقضى بقية عمره في مساعدة الفقراء وتبرع بأمواله لهم، مات ونرجو له الفوز لما تظهر عليه من علامات حسن الخاتمة وحسن العمل، فكان ابتلاؤه بذلك المرض الخبيث فيه خير كثير له في هدايته، وإكثاره من العمل الصالح قبل وفاته.

ومما يساعد على تجويد العبادة تذكر الموت وزيارة القبور، وكما قيل: كفى بالموت واعظًا، وقال : ((زوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت))[12]، والنظر إلى القبر وحده يكفي أن يفزع الإنسان، ويجعله ينتبه ويشمر سواعده للعمل والجد في طلب الآخرة، وكذلك زيارة المرضى لا سيما من هم على فراش الموت، وسماع قصص عن حسن وسوء الخاتمة، وكذلك تعلم أخبار الآخرة كأحداث يوم القيامة والبعث، والحساب والصراط، والجنة والنار، والتفكر فيما حل بطواغيت الأمم السابقة؛ كفرعون وهامان وقارون، وقراءة القرآن الكريم وأحاديث الآخرة، والإكثار من التوبة والاستغفار، فكل ذلك يوقظ قلب المؤمن ويزكيه، ويذهب الغفلة منه، وينقله من علم اليقين إلى عين اليقين؛ مما يحفزه للاجتهاد في العبادة وتحسينها وإتقانها، ويزيد من همته وعزمه.

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لعبادته على الوجه الأكمل، وأن يقبلها منا ويرضى عنا ويرضينا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.