الفن الإسلامي نتاج تفاعل متداخل لمصادر حضارية وثقافية مختلفة تنبع من عمق التاريخ العربي والإسلامي، ويظهر من خلاله بعد حضاري ثقافي متفرد. يعتمد هذا الفن على مصادر إنسانية وروحية عدة ويتفاعل مع بيئته المحلية، مما منحه خصوصية نشأت من التراث العربي والإسلامي مع ملامح من التفاعل الحضاري والإبداعي المستمر.

ومن أجل مزيد من فهم هذا الموضوع، هذه المادة لخصت محاضرة بعنوان “موجز تحليلي للتأثيرات والمؤثرات في الفن الإسلامي” أعدتها الأستاذة الدكتورة صبا الياسري، أستاذة فلسفة فنون تشكيلية‏ بجامعة الكوفة ونشرت على موقع (academia.edu). الدكتورة الياسري استعرضت أفكارا وتحليلات حول نشأة الفن الإسلامي وتطوره، وحددت مصادره الخارجية وخصائصه الجوهرية القائمة على العقيدة الإسلامية.

التأثيرات الخارجية لملامح الفن الإسلامي

حددت الدكتورة الياسري مجموعة من التأثيرات الأساسية التي شكلت ملامح الفن الإسلامي، وهي كالتالي:

التأثيرات العربية المحلية والبيئية

البيئة الصحراوية والجلاء الطبيعي بظواهرها كالرمال والسماء النقية في النهار والليل، شكلت منبع الإلهام الأول للفنان العربي المسلم. هذه البيئة الحاضنة أرسَت طباعاً فنية اتسمت بالوضوح، البساطة، وتأمل الطبيعة الصافية، ما انعكس في تبني الزخارف الهندسية والتشكيلية التي تخدم التعبير الفني ذو الأبعاد المحلية الأصيلة.

التأثيرات الحضارية السالفة (اليونانية والرومانية والبيزنطية)

    الفن الإسلامي المبكر تأثر بتيارات فنية غربية كاليونانية والرومانية والبيزنطية، خصوصًا خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين. تميزت هذه التأثيرات بالاهتمام بالزخارف الغنية والأساليب الترفيهية مثل الباروك والروكوكو التي سعت إلى إبراز الضوء والظل وتفاصيل زخرفية فاخره، مما أضاف للفن الإسلامي عنصر الثراء الفني والترف.

    التأثيرات الإيرانية والسلجوقية

    ساهم الفن الفارسي والسلجوقي في إثراء الفن الإسلامي بأبعاد فلسفية عميقة، وأسلوب زخرفي دقيق وصناعات فنية متقنة. هذه التأثيرات لم تكن مجرد تقليد بل استلهام مبدع دفع الفنان المسلم لابتكار فنون داخلية مميزة تشكل جزءًا لا يتجزأ من بنية الفن الإسلامي.

    التأثيرات المغربية والأندلسية

    في الغرب الإسلامي، شهد الفن الإسلامي تطورًا زاخراً بتأثيرات أندلسية ومغربية جسدت مهارات زخرفية مذهلة. استخدم الفنانون الضوء كعنصر زخرفي أساسي، وبرزت زخارف الجص الدقيقة في تغطية المساحات الواسعة، كما برز استخدام الخط العربي في تأطير الزخارف والتعابير المعمارية.

    تمتاز العمارة المغربية الأندلسية بخصوصيات معمارية دقيقة لم تُغفل في هذا الطراز منها:

    • المئذنة التي تأخذ شكل البرج المربع ذي القمة المسننة، والتي في كثير من الأحيان تُبنى منفصلة عن جسم المسجد لتصبح برجاً قائماً بذاته.
    • التفنن في تصميم الأسقف الخشبية المزخرفة والأعمدة التي تضفي زخارف بديعة وحسية.
    • استخدام الفسيفساء إلى جانب القاشاني كبديل للرخام لتزيين الدعامات والجدران القادرة على تحمل ضخامة الأعمدة.
    • نقش عبارات دينية بارزة مثل “لا غالب إلا الله” التي زينت بلاطات وقصر الحمراء، مما أضفى عمقًا رمزيًا خاصًا على الزخارف والعمارة.

    التأثيرات التركية العثمانية

    برز الفن العثماني كمزيج مثير بين الفن الإيراني والغربي، مع ضرورة الإشارة لصعوبة التمييز بينهما أحيانًا. تميزت هذه المرحلة باستخدام مكثف للبلاطات المزخرفة (القاشاني) في تغطية المساجد والعمائر، مضيفة حيوية بصرية وتناسقًا جماليًا يعكس مدى احترافية الفن العثماني وتطوره.

    الجوهر الداخلي للفن الإسلامي

    بعد استعراض المؤثرات الخارجية انتقلت الدكتورة الياسري إلى تحليل علاقة الفن الإسلامي بجوهره العقائدي الذي ينظر إليه كانعكاس للعقيدة الإسلامية.

    ارتباط الخط العربي بالقرآن الكريم

    إن الفن الإسلامي مرتبط بعملية التعبير عن العقيدة. فالخط العربي، على سبيل المثال، ارتبط بكلام الله من خلال كتابة آيات القرآن الكريم، الذي كان مصدر الإلهام الأول للفنان المسلم. تطور هذا الخط وامتزج مع الزخارف النباتية، وهذا الارتباط له أصل في القرآن في قوله تعالى: ﴿…كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾. فكما أن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، امتزجت الكلمة (الخط) بالنبات (الزخرفة) في الفن مما يعكس وحدة الكلمة الإلهية مع الطبيعة الخلّاقة. وهكذا، دخلت الزخارف النباتية لتزيين هوامش صفحات المصاحف وأغلفتها، ثم انتقلت لتغطي جدران المساجد.

    التصوير النباتي والرموز القرآنية

    القرآن الكريم غني بالصور والأوصاف النباتية، خاصة في وصف الجنة. فكلمة “جنة” في حد ذاتها تحمل معنى نباتيا، إذ تشير إلى مكان تتداخل فيه أغصان الأشجار بحيث تستر من يدخلها. وقد تحدث القرآن عن نباتات الجنة وثمارها المتدلية: { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}. كما ذكر النخيل، والأعناب، والتين، والزيتون، والرمان، والسدر، والسنابل. كل هذه العناصر شكلت معينًا لا ينضب استلهم منه الفنان المسلم وحداته الزخرفية، وطورها لتثمر فن “الرقش العربي” أو “الأرابيسك” بأشكاله الإبداعية المتداخلة حيث التداخل المتناغم للأشكال النباتية يعبر عن الحياة الأبدية والتجدد.

    وظيفة الفن الإسلامي وطبيعته التأملية

    يمكن اعتبار الفن الإسلامي أحد وسائل التعبير الهادفة إلى التفكير والتأمل في قدرة الخالق وجمال العالم الذي خلقه. لقد امتازت الزخارف الهندسية والنباتية والكتابية بعدم الاعتماد على التصوير المباشر، لتعكس فلسفة التوحيد التي تنبذ التمثيل الحسي للألوهية، وتدعو إلى قراءة روحية تأملية تجعل من الفن شكلا من أشكال العبادة والصلاة.

    الهوية والرمزية والتجسيد الروحي المادي

    يحمل العمل الفني الإسلامي معنى مزدوجا؛ من جانب يعبر عن هوية فنية اجتماعية بيئية ودينية، لكنه أيضا يتحول إلى أداة مقدسة بفضل تفاعل الإبداع الفني مع المتلقي المؤمن. بمعنى آخر، تتحول المادة الجامدة كالخشب، الحجر، والطين، من مجرد مواد بناء إلى أُطُر تحمل القدسية عبر التصميم والعمل الفني المفعم بالرموز الدينية. وتتجلى هذه السمة في المساجد، حيث يخلق الفن جواً من التأمل والسكينة يهيئ الإنسان للتواصل مع الله، وذلك عبر صمت تأملي يخلو من أي إبهار بصري مضاد.

    العمارة الإسلامية

    العمائر الإسلامية لها دلالات أبعد، فمثلا المسجد له رمزية حية تعبر عن العلاقة بين العبد وربه. تشمل هذه الأبنية عناصر معمارية عديدة، مثل القباب، المحاريب، المآذن، والحرف، التي تتزين بنقوش وزخارف تدمج بين الخط العربي والنباتات والهندسة. كذلك تتخذ المواد الطبيعية دورًا فنيّا مقدسًا يحمل معنى روحيًا، مما يحول البناء إلى مساحة مقدسة ومفعمة بالجمال وتأمل القائمين به.

    تجربة وجدانية

    يخلق الفن الإسلامي حالة روحية في المتأمل ترتكز على الانسجام والتكرار والتناغم في الأشكال، بحيث تتحول التجربة الفنية إلى تسبيح وإشادة بالجمال الإلهي، فهو يفتح الأفق أمام التأمل معززًا الترابط الكوني بين الإنسان والوجود من خلال لغة جمالية رمزية تستدعي الخلود والسمو الروحي.

    خلاصة

    تختتم الدكتورة الياسري فكرتها بأن الفن الإسلامي هو نتاج حضاري متفاعل تبلور من تداخل مصادر متعددة مع روح الدين الإسلامي التي أعطته هويته الفريدة حيث يجمع بين إعجاز العقيدة وتنوع المؤثرات الحضارية، إنه فن يرفض تجسيد المقدس بالصور الحسية، ويجسد بدلا من ذلك فضاءات تأملية وروحية ترفع المادة إلى قدسيتها من خلال الإبداع والفكر، فتصبح كل قطعة فنية رسالة تأملية جامعة بين الجمال والدين والهوية.