ثمة حالة من القطيعة المعرفية بين الأمة المسلمة وبين القرآن الكريم، ما أنتج غيابا حضاريا كاملا بحسبان القرآن وإجادة التعامل معه وفهم منهاجه وتدبر حِكَمِهِ هو أصل كل رقي حضاري يمكن أن تصل إليه الأمة..
وبرغم الحرص الشديد الذي يصل في بعض الأوقات ربما إلى درجة المغالاة في إظهار التقديس والتعلق بمظاهر العناية بالشكل، فإن حالة القطيعة تلك تبدو ظاهرة للعيان في تعاملات الأمة والأفراد في جل الملفات التي من المفترض أن يكون الكتاب العزيز فيها هاديا ومرشدا..
وهذا التناقض في التعامل مع القرآن ما بين حرص شديد على تقديسه وتكريم حفظته وإظهار تعلق به عن طريق قراءته وتعدد ختماته، خاصة في “مواسم العبادة” كشهر رمضان مثلا.. هذا التناقض نتاج انقلاب في الفهم عما كان عليه سلف الأمة، وعما أرساه القرآن نفسه من مباديء في التعامل معه..
يقول تعالى مثلا: ) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 38] وكأنه هنا يؤكد على أن الهدف الأهم من تعامل الأمة مع القرآن هو التدبر والتفكر، ومحاولة حضور القلب والعقل معا لفهم منهجه وهضم قيمه ومبادئه.. مع ملاحظة انه هنا تحديدا لم يجعل للتلاوة نصيبا مع علو ثوابها، لكن هذا العلو بحسبانها وسيلة للغاية الكبرى وهي التدبر…
وحتى حينما ذم الله هجر القرآن فهم السلف أن هذا الهجر مقصوده الأعلى هو هجر التدبر..فابن كثير يعلق على قوله تعالى (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30] قائلا: “وترك تدبره وتفهمه من هجرانه”[1] وقال ابن القيم: “هجر القرآن أنواع… الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه”[2].
على أية حال فوسط تلك الحالة لا يعدم المراقب محاولات جادة لإحياء تلك الفريضة المهجورة، بطريقة تصلح لأن تكون أساسا للتعامل مع هذا الكتاب النفيس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..
ومن تلك المحاولات ما قام به أستاذنا العلامة الراحل الدكتور طه جابر العلواني حيث ألف ما يمكن أن يسمى بـ “المكتبة القرآنية” أطلق عليها هو “سلسلة الدراسات القرآنية”، حاول فيها تقديم منهج للتعامل مع القرآن الكريم على مستوى التدبر كفريضة غائبة..
تحدث في بعضها عن “الوحدة البنائية للقرآن الكريم” كأصل ينبغي أن يتم من خلاله فهم القرآن والتعامل معه، وتحدث في بعضها عما أسماه “الجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة الكون” وحاول في هذا الإطار السير من خلال القرآن ” نحو منهجية معرفية قرآنية محاولات في بيان قواعد المنهج التوحيدي للمعرفة”، وقدم اجتهادا لمحاولة تشخيص ” أزمة الإنسانية ودور القرآن الكريم في الخلاص منها” فيما يشبه تجربة في التعامل مع القرآن على المستوى المادي..
مدخل الأزمات
أحد روافد المؤسسة القرآنية الأهم للدكتور طه جابر العلواني هو كتابه “نحو منهج لتدبر القرآن” وفيه يحاول العلواني التأسيس المعرفي لهذا المنهج بعيدا عن الأفكار المغلوطة..
ورأى العلواني أن المدخل الأهم لمقاربة القرآن الكريم بمنهج من سماهم ” جيل التلقي” هو ما عبر عنه بـ “مدخل الأزمات” وهي حسب تعبيره ” الأسئلة التي يفرزها الواقع فينزل القرآن المجيد بمناسبة إثارتها، لا ليلتصق بذلك الواقع، ويُستوعَب في مشكلاته وأزماته، كما يتوهم بعض الجاهلين، بل ليستوعبها بحلوله وإجابته ويقوم بترقية الواقع ثم تجاوزه، وهكذا يبقى القرآن الكريم في حالة استيعاب وتقديم حلول وترقية للواقع ثم تجاوزه إلى غيره.
وأقر بأن هناك فروقا دقيقة بين “عصر التنزيل” والعصور التي تلته؛ مؤكدا على أنه لا يقصد التماهي في وسائل عصر جيل التلقي قائلا: “في عصر التنزيل كان القرآن ينزل نجومًا ليجيب عن أسئلة الواقع، ويستوعبها ثم يتجاوز بالواقع تلك المشكلات بعد معالجتها وترقية الواقع وتمكينه من تجاوزها.
أمّا بالنسبة للعصور التالية فإن القرآن الكريم تامٌ كامل، وذلك يقتضي أن يؤمن الناس أولا بموسوعية القرآن، وبأنه ” ما فرطنا في الكتاب من شيء” ثم يصوغون أزماتهم وإشكالاتهم وأسئلتهم، ويذهبون بها إلى القرآن الكريم ليضعوا ذلك بين يديه، ويستنطقوه الجواب..”
وفي الإطار المعرفي جعل التعامل مع القرآن بهذا المنهج وكأنه حوار قائلا: “قد يطول الحوار بين أصحاب الأزمة والمشكلة أو السؤال، وقد يحتاجون إلى قراءة القرآن كله لئلا يتحول الأمر إلى إسقاط موضوعات القرآن الكريم مصاغةً خارجه، لأن القرآن الكريم هو الذي يصوغ موضوعاته إذا أحسن القارئ الحوار معه، وهذان الأمران من أهم الفوارق بين “جيل التلقي” والأجيال التالية، وبينه وبين كل المدارس التي حاولت مقاربة القرآن..
نموذج أزمة وطريقة تعامل القرآن معها
وفي محاولة عملية بعيدا عن التنظير الذي يمكن الشغب عليه بطريقة أو بأخرى، حاول العلواني في كتابه أن يقدم نموذجا لمقاربة قرآنية لإحدى أزمات البشرية المؤرقة، مؤكدا أن “القرآن يحمل من المحددات المنهاجية ما نستطيع لو قاربناها بصدق أن نؤسس لمرجعية عالمية، بغض النظر عن مشاكل الأمة ذاتها..”
“أزمة الصراع العالمي” بغض النظر عن تعدد أسبابها، يستطيع القرآن بحسب العلواني “أن يقدم للبشريّة شيئًا من “المحدّدات المنهجيَّة” والمؤشّرات التي تعينهم على التخلّص من عوامل الصراع وتخفيض مصادره، أو لنقل تجفيف مصادر النزاع والصراع بينهم…
الأهم في محاولة “العلواني” هو طبيعة المنهج الذي يحاول التأسيس له، بحيث يبرز القرآن كأحد أهم أدوات فهم القرآن نفسه، عن طريق “استنطاقه” بما يعين على الفهم والتدبر…
ففي استعراضه رؤية القرآن لعلاج أزمة الصراع العالمي يرى أن البداية من منهج القرآن نفسه في التأسيس لطبيعة العلاقة بين البشر بعيدا عن الاختلافات الدينية او المذهبية أو الأيديولوجية..
فالقرآن يؤكد للبشر – وهنا تبرز أهميّة صفة “الكونيّة” داخل النسق القرآني- أنّهم أسرة واحدة ممتدة، “يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” [النساء 1]
“إذن الأصل نفس واحدة، والأصل الثاني أسرة واحدة ممتدة، إذن فالبشر -كلهم- ينتمون إلى أسرة واحدة ممتدة، كلكم لآدم وآدم من تراب، تُرى لو ساد هذا الشعور لدى البشريّة ووعت به، وأدركت أن اختلاف ألسنتها وألوانها، وأديانها ومذاهبها، وعروقها ومصالحها، والمواقع الجغرافية التي تعيش فيها، إنما هي اختلافات طفيفة تحدث في الأسرة الواحدة لا تجعل منهم أممًا مختلفة؛ لأنها ما وجدت إلا لإعانتهم على التعارف، والتعارف يستدعي التآلف، والتآلف يستدعي بعد ذلك التعاون، لما وجد أيُّ أحد مبررًا لكي يقاتل أخاه، أو يشتبك مع أسرته، أو يحّول أبناء أسرته الواحدة الممتدة إلى أعداء، ولكن تناقض المصالح، وفقدان آليات احتواء الصراعات التي أرشد القرآن الكريم إلى الكثير منها، وغياب هذه النظرة الإنسانية المتوازنة التي أرسى القرآن المجيد دعائمها، هذه الأمور كلها لم تسمح للبشر أن يروا فيما بينهم إلا عوامل الاختلاف والتنافر لا عوامل الائتلاف والتآخي..”.
والبشريّة اليوم تحاول جاهدة أن تجد أي مصدر “كونيّ” يمكن أن يعينها على رأب الصدع، وقد ابتكرت الجامعات الأمريكية والغربية ما أطلقوا عليه “علم حل المنازعات” أو Conflict Resolution فلم يستطيعوا إلى الآن بالرغم من الآليّات الكثيرة المقترحة أن يقدموا لنا ما قدمه القرآن الكريم في مؤشّرات محدودة مشوقة جدًا، ومؤثِّرة جدًا، وقادرة على تهيئة النفس البشريّة لاستقبال فكرة الانتماء إلى الأب الواحد والأسرة الممتدة الواحدة، وهذا الاعتقاد خطوة معجزة في تهيئة البشريّة لتحويل التعدد والتنوع إلى عوامل إيجابيَّة في معالجة أسباب الصراعات والمنازعات والحروب، إضافة إلى الإيمان بوحدة الأرض بيتًا للإنسان، وموضع عبادة وطهور وأن موارد الأرض خلقت بمقادير ونظم دقيقة لتكون كافية للأسرة البشريّة الممتدة إذا سادت البشريّة القيم القرآنيّة.
وقد أكَّد القرآن المجيد أن الأرض-كلّها- بيت للإنسان؛ الإنسان بمفهومه الشامل، يعني هذه الأسرة الممتدة (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) [البقرة 29] ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم 33، 34] استخلفكم في الأرض جميعًا بوصفكم نوعًا لا بوصفكم قبيلة أو شعبًا أو أمة مختارة.
فحين نؤمن أن البشريّة أسرة ممتدة، وأن الأرض كلّها بيت لهذا الإنسان لا ينبغي أن يلوثه أو يفسد فيه، أو يعيث فيه فسادًا، ولا ينبغي أن يسيء إليه، بل يحبه، ويستثمره، ويحرص عليه، ولا ينبغي أن يتوهم أنه امتلكه باصطفائه امتلاك استبداد، بل امتلاك منفعة فحسب؛ لأنَّه مستخلف فيه، فسوف نجد أن هذا الإنسان إذا آمن أن الأرض -كلها- منزل له لا يمكن أن يجعل بعضها مدفنًا للنفايات المدمّرة، لأنَّه إفساد لها وفيها، ولا يتركها مواتًا ونهبًا للتصحر، ولعمليّات التلوث المختلفة، لأنّها وديعة لديه -كلها- لا إقليمه وحده، ويدرك ويوقن أن الأرض كلها أرضه، وأرض أسرته الممتدة…
إذن القرآن حينما نأتي إليه متدبّرين يستجيب لنا -ونحن نحمل هذا النوع من الأزمات في قلوب البشر وعقولهم، أزمة البيئة؛ وأزمة الصراع، وغيرهما يعطينا مؤشّرات -عند التدبُّر- نستطيع بحسن الاستفادة بها معالجة مشكلات وأزمات لا علاج لها بغير القرآن.
[1] تفسير ابن كثير 6/108.
[2] بدائع التفسير 2/292.