النقلة الحاصلة اليوم في علاقة المسلم بالكلب تحتاج إلى وقفة وجهد للفهم. هل هي صورة أخرى ل” جحر الضب” كما ورد في الحديث النبوي، كناية عن التصاق المغلوب بجلد الغالب ؟
أم هي حقا تعبير عن الحاجة إلى حيوان غير عاقل في البيت، يسد النقص الذي يُخلفه العقلاء، ويغذي الحاجة إلى مشاعر محددة لم يعد بالإمكان تحصيلها داخله؟
ولماذا الكلب تحديدا دون سواه من دواب الأرض وسباعها، أو طير يطير بجناحيه؟
تبدو مسألة الوفاء التي يحتج بها أنصار احتضان الكلب مبالغا فيها شيئا ما، بل يمكن القول أنها لا تخلو من دعابة حين يكون مقتني الكلب مجرما أو زعيم عصابة، لأن الوفاء هنا تثبيت لوضع منحرف، يدفع الأبرياء ثمنه من أمنهم وأرواحهم، وهذا أمر لا يفهمه الكلب لأنه أقرب للمجيب الآلي بحسب ما خلص إليه العالم الروسي بافلوف في تجاربه! إنها دعابة شبيهة بجواب الطفيلي حين سئل عن أحب آية في كتاب الله تعالى إلى قلبه، فرد دون تفكير: ﴿اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء﴾ المائدة:114، وما يعنيه بطبيعة الحال ليس جلال المشهد وإنما صنوف الطعام وألوانه. كذلك الحال في مبرر الوفاء الذي يغطي على الآثار الجانبية لحضور الكلب في الشوارع وداخل البيوت.
يثير أنصار احتضان الكلب عنوانا طريفا احتفظت به المكتبة الإسلامية، لمؤرخ وأديب خراساني عاش ببغداد خلال القرن الثالث الهجري هو محمدبنخلفبنالمرزبان. أما الكتاب فيحمل عنوان ( تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، ويلاحظ قارئه أنه عبارة عن وثيقة احتجاجية على التدهور القيمي الذي شهده المجتمع الإسلامي، وسعي للهروب إلى الأمام عن طريق تمجيد الكلاب بدل التصدي للانحرافات ومعالجتها. وكل ما فعله ابن المرزبان أنه جمع أقوالا وأبياتا ترى في وفاء الكلب عوضا عن خيانة الصديق، ونفاق الجار، وغدر الأحبة.
بعض المدافعين عن مشهد بيوت وشوارع مَكلبة (1) يرون في حضور الكلب ضمن السرد القرآني لخبر أهل الكهف، تأكيدا لأهميته كفرد من العائلة، وشرفا يُعلي من مقامه بين بني جنسه. كيف لا وهو الذي قضى ثلاثمئة سنة، أو يزيد، نائما في مدخل الكهف، تعبيرا منه عن الوفاء الطويل، والانتظار الذي لا يعرف الملل، كما يقول الكاتب المصري أنيس منصور! لكن في القرآن كذلك دلالات تعيد الأمر إلى نصابه، منها تشبيه العالِم الذي باع دينه بعرض من الدنيا بأنه كالكلب الذي يلهث في وضعي الحركة والسكون، وهي بالتأكيد صورة لا تحتمل أي شرف.
ثم مسألة تعليم الكلب طرق الصيد حتى يحل للمسلم تناول الطريدة ضمن شروط محددة، وهو تعليم غرضه الانتفاع بالصيد، وليس الارتقاء بالكلب إلى مصاف النخب المتعلمة!
ناهيك عن العملية المرهقة التي أشار إليها النبي ﷺ لتطهير الإناء من نجاسة الكلب، حين يتناول فيه طعامه. وتشبيهه للكلب الأسود ذي النقطتين بأنه شيطان.
لا يعني ذلك التقليل من قيمة الكلب وخدماته لأجل الإنسانية، فهو أقدم شريك للإنسان قبل الماعز والبقر، زيادة على تضحياته لإنقاذ الجرحى في الحروب، وقصص تنبيهه المسبق لأخطار محدقة بالسيد وعائلته. لكن في المقابل قد يصبح بطلا لمأساة أو مذبحة ، كتلك التي تسببت فيها الكلبة “براقش” حين دلت بنباحها على مكان القبيلة فأفنتها سيوف الأعداء، وصارت براقش عنوانا على الشؤم الذي يجره الكلب على صاحبه.
تعرض هوليود لعشرات الأعمال السينمائية التي يتمتع فيها الكلب بحضور متزايد، ويصبح بديلا مقنعا لضمور العلاقات الإنسانية، والشعور المؤلم بالوحدة وتفتت كيان الأسرة. إنها إحدى فواجع العالم الصناعي الرأسمالي الذي يتاجر بالمآسي بدل حلها. لكن أن تنتقل العدوى بهذا الشكل المفرط إلى مجتمعاتنا، ويتخلص الكلب من واجب الحراسة والصيد ليشرب العصير وينال القبل بالفم، فهذا ما يؤشر على إلهاء خطير، يصرف الشباب المسلم عن قضاياه وتطلعاته ليقلد متاعب غيره.
ينسب ابن المرزبان مقولة لابن عباس رضي الله عنهما مفادها : كلب أمين خير من صديق خؤون. وحتى لو صحت نسبتها لعالِم جليل كابن عباس، فإن النهج الإسلامي يحث على اتباع خطوات لحل المشكل ومعالجته من الداخل، وتقويم الانحراف بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن. بمعنى أن تربية الجيل الناشئ على الوفاء، والتمكين للقيم في علاقاتنا المجتمعية أقل كلفة من مخلوق غير عاقل، يجر خلفه أضرارا صحية، وحوادث ومنتجات باهظة الأثمان.
(1): ورد في قواميس اللغة : أرض مَكلبة أي كثيرة الكلاب.