مبحث ترجمة القرآن من المهمات التي تُناط بالمسلمين؛ إذن عليها يتوقف تبليغ القرآن لغير العرب، والترجمة في نفسها دقيقة تحتاج لكفاءة وأمانة، وبعض المترجمين يترجمون خطأ لقلة علمهم، أو يتعمدون الخطأ لسوء نيتهم..
والترجمة بالمعنى العام تُطلق على مجرد نقل الكلام والنطق به، وعلى نقله إلى لغة أخرى.. كما تطق على تفسير الكلام باللغة التي قيل بها، أو تفسيره بلغة أخرى..
أما الترجمة العرفية التي اصطلح عليها الناس فعرَّفوها بأنها التعبير عن معنى كلام بكلام من لغة أخرى، مع الوفاء بمعانيه ومقاصده..
فقولنا التعبير عن معنى كلام بكلام من لغة أخرى مخرج لتعبير الإنسان عما في نفسه، والتعبير بالمرادف..
وقولنا: مع الوفاء … إلخ، مخرج للتفسير؛ فإنه يكتفى فيه بالبيان ولو بوجه من الوجوه، ولا يشترط فيه الوفاء بكل المعاني والمقاصد..
وتنقسم الترجمة إلى: حرفية لفظية، وإلى معنوية تفسيرية..
شروط المترجم والترجمة
لا بد أن يكون المترجم أمينًا وكفئًا عالمًا بكل من اللغتين من حيث المفردات والتراكيب والأساليب؛ بحيث يمكنه تعويض النقص ليحقق الوفاء المطلوب في الترجمة، والذي يجعلها صالحة لأن تسد مسد الأصل..
فإذا كانت الترجمة حرفية.. فلا بد من تساوي اللغتين في المفردات والاشتقاق والضمائر، وإلا تصير الترجمة الحرفية ممتنعة، متى لم تتعادل اللغتان في كل شيء يتصل بالموضوع المترجم..
وتفترق الترجمة عن التفسير بفروق:
- استقلال الترجمة عن الأصل..
- لا استطراد في الترجمة.
- وفاؤها بالغرض كاملًا..
- كمال الاطمئنان بالترجمة..
التفسير بخلاف هذا كله.. لا يستغني عن المفسَّر، ويمكن الاستطراد فيه.. وأحيانًا يُكتفى فيه بوجه من الوجوه، ولا تتأكد الطمأنينة به لاحتمال الإيجاز فيه.. والتفسير بطبيعته قائمة فيه الاحتمالات..
هذا كله في التفسير بالرأي.
ولا فرق بين الترجمة الحرفية والترجمة التفسيرية؛ إلا أن الترجمة الحرفية نقل للمفردات، والتفسيرية تصوير للمعاني..
كما أنه لا فارق في التفسير بين أن يكون بلغة المفسر، أو بغير لغته.. ولا تعرف الترجمة تعريفًا منطقيًّا؛ لأنها من قبيل التصديقات، والتعريف من التصورات، ولأن الترجمة سدت مسد الأصل فلا يجمع بين البدل والمبدل منه..
ونحن نعلم أن التعريف إما حقيقي يقصد منه حصول الصورة في الذهن بعد أن لم تكن حاصلة..
وإما لفظي يقصد به حضور ما هو حاصل غائب..
وما ذكر لها من تعريف إنما هو بالرسم.. شأن معظم المعرفات..
ولما كان الكلام عن الترجمة، وليس فيها تحصيل ما ليس بحاصل؛ لأن الأصل موجود ولا حضور ما هو غائب؛ امتنع تعريفها تعريفًا منطقيًّا..
والمراد بالقرآن في قولنا: ترجمة القرآن -الكلام المعجز البليغ.. ومن المعلوم أن لأي كلام بليغ معنى أولي يعرفه الجميع، ومعنى ثانوي ينفرد بمعرفته الخاصة..
وعلى الناظر في القرآن لترجمته أن يعلم مقاصده الأساسية:
- أولها: هداية الناس إلى الحق..
- ثانيها: إثبات عجز الخَلْق عن الإتيان بمثل أقصر سورة فيه..
- ثالثها: التعبد بتلاوته.
وعظمة القرآن يدركها الخاصة، وكثيرًا ما تفوت على العامة، والذي يترجم القرآن يجب عليه أن يركز على المعنى الثاني الذي تكمن فيه عظمة القرآن المتحدى به المعجز.
ولا بد من ملاحظة أن القرآن مقصود به التعبد بتلاوته، فلا يُستغنى عن أصله بترجمة حرفية أو بغيرها، وتجب المحافظة على أصله، فهو مأدبة الله لا يُغني عنه شيء؛ لأن فيه التدبر: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} ، وهو ميسور الحفظ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .. وعلى لفظه تتوحد الأمم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .
حكم ترجمة القرآن
إن كانت بمعنى نقل ألفاظه.. فجائز شرعًا. تفسيره باللغة العربية جائز شرعًا. تفسيره بلغة أخرى جائز لمن استجمع لشروط المفسر وشروط المترجم. وهذه المعاني الثلاثة راجعة إلى الترجمة العامة. أما نقل تفسيره بالعربي إلى غير العربي، فتلك الترجمة العرفية، وهي جائزة شرعًا..
وفوائد هذه الترجمة:
- رفع النقاب عن الإسلام.
- إزالة الشبه.
- تنوير غير المسلمين.
- إزالة الحواجز المصطنعة.
- براءة الذمة من تبعة التبليغ.
وقد وردت على ترجمة التفسير بعض الشبهات؛ منها:
- أن ترجمة التفسير لا بد فيها من ذكر شيء من القرآن، وهو ممنوع عندكم.. وجوابه: أنه يكفي أن يكون موجودًا باللفظ والرسم العربي، ويشير المترجم إليه برقمه..
- التفسير: يشمل عادة السنة وأقوال الصحابة والأئمة، مما يتعذر ترجمته.. وجوابه: أن يكتفى من التفسير بوجه واحد لتتيسر الترجمة.
- يكتفى بترجمة تعاليم الإسلام عن التفسير..وجوابه: أن هذا يكفي لمن يريد أن يتعرف على الإسلام بوجه عام، أما مَن يريد أن يتعرف على التفسير للحاجة إليه، فلا يكفيه إلا أن يترجم له التفسير، ومن أراد القرآن فعليه أن يعرف لغته؛ ليتلوه بها.
وبناء على ما سلف.. فإن معنى ترجمة القرآن: التعبير عن معانيه وألفاظه العربية بلغة أخرى، مع الوفاء بمقاصده.
والترجمة الحرفية من المستحيل العادي، خصوصًا في القرآن؛ لما يأتي:
- قصور الترجمة عن الوفاء بالمعنى الأول والثانوي، والمحافظة على مقاصد القرآن الثلاثة.
- إن وجدت وجد مثل للقرآن.. وهو مستحيل، والمستحيل يحرم طلبه شرعًا؛ لأن طلبه عبث..
- إذا قلنا بإمكانها نكون قد ادعينا وجود مثل للقرآن، وهو منافٍ لإثبات عجز البشر.
- إذا وجدت انصرف الناس على الأصل.. وذلك لا يجوز.
- إذا وجدت انصرف الناس إليها وعُرض الأصل للضياع، وهذا لا يرضاه مسلم يتعبد بتلاوة القرآن.
- إذا وجدت الترجمة الحرفية افترق الناس واختلفوا، والمطلوب وَحْدَة الأمة.
- إذا وجدت تصدعت لغة القرآن، ولم يبقَ لوصفه بالعربية كبير فائدة.
- انعقد الاجتماع على عدم جواز رواية القرآن بالمعنى؛ محافظة على لفظه، فكيف يجوز وفي الترجمة الحرفية هجر للفظه؟!
- الأعلام لا تمسها الترجمة، والقرآن عام مقصود لفظه.
وقد وردت بعض الشبهات على منع الترجمة الحرفية، نوجزها فيما يأتي:
- وجوب تبليغ الإسلام.
وجوابه: يمكن تبليغه بترجمة التفسير لمن أراد التفسير، وتبليغ أحكام الإسلام بترجمتها لمن أراد معرفة الأحكام.
- استلزم كتب النبي ﷺ التي بعثها إلى غير العرب للترجمة، فلا بد أنها ترجمت لهم بإقرار منه عليه السلام للترجمة.
وجوابه: أنها تستلزم ترجمة التفسير، على أن ما في كتبه ﷺ كان اقتباسا من القرآن، وليس في أي كتاب آية كاملة.
- ومَن ادعى أن الكتب تُرجمت ترجمة حرفية.. فقد أعظم القول وقال بغير علم.
- الترجمة كالتفسير.
وجوابه: أن بينهما فروقًا كما سق.
- يكتفى بالمعنى الأولي.
وجوابه: أن هذا شطر القرآن.. فالمعنى الثانوي أهم عند الخاصة من المعنى الأولي، وأدل على العظمة والإعجاز والهداية.
- تصحيح ما وقع من أخطاء.
وجوابه: ستقعون في الخطأ مثلما وقعوا.. بل إن الترجمة التفسيرية لم تزل بها أخطاء يندى لها الجبين مع كثرة تَكْرَارِها.
- نقل عن سلمان الفارسي أنه ترجم الفاتحة، وأقر النبي ﷺ ترجمته لها.
وجوابه: أن هذا خبر مطعون في صحته.. وعلى فرض التسليم بسلامة سنده -وهو عسير جدًّا- فإنها كانت ترجمة للتفسير، وليست ترجمة حرفية.
- جوز الأحناف الدخول في الصلاة بترجمة التكبير.
وجوابه: أنه لا حجة إلا لما ثبت عن الله ورسوله، وأن الأحناف يفرقون بين ما هو ذكر تجوز ترجمته، وما هو قصة لا تجوز ترجمته.