يواجه المفكّر مشكلة كبيرة في مسيرة تطوّره الفكريّ، في أنه يجد قبولًا من الناس لأفكاره، ويعرف بعضها القريب والبعيد منه وعنه، وحين يصل إلى ما بعد الأربعين تبدأ كثير من إشراقات الوعي والنضوج تدبّ في روحه وتشرق على عقله، يخاف منها في بداية الأمر، ولكنه يتحدث بها ويناقش من يتوقع منه الوعي والمعرفة، فهو يتساءل عن آخرين أسئلة يتوقعها الناس جهلًا أو يقولون لعله يريد أن يَردّ ويكتب عنهم وعن آرائهم وانحرافاتهم، أو أن لديهم شيئًا مجهولًا يَحسُن بالمفكر معرفته.
اليوم يهوى أمورًا وموضوعات لم يكن يعطيها مكانة كبيرة، تنفتح عيناه على قضايا أخر، تهتز كثير من آرائه السابقة. وهنا تبدأ معركة الفكر في الداخل والخصومة العنيفة بين ما كان يراه وما أصبح يراه اليوم، معركة مرعبة يراها ولا يجهر بها.
يحاول أن يجند جيشًا قمعيًّا من جنده القديم، يجلس مع جيش المحافظين يأنس بهم ويأمل أن يهيئ الله منهم فارسًا شجاعًا يضرب بصارمه رقبة هذه الأفكار التي تدور في الرأس، يتلمح بعينيه فلا يرى ذاك الشجاع، ويكرر موقف شوقي “ووجدت شجعان العقول قليلًا”، وهناك يرمي فكرة كليلة، ورأيًا فطيرًا، ويكبت ألمًا حارًّا ويغطي على فكرته التي يضغط بخارها بقوة فوق قدرته على الكبت، ويحاول أن يسيطر على غبار المعركة كي لا يراه أحد، فيمشي وحيدًا، يطرح الفكرة على نفسه، ويرد عليها، يا لها من متعة مؤلمة ومغامرة غريبة في أعماق الذهن أن تصنع الفكرة وترد عليها، وحيدًا دون قرين، وبعض من كان يراهم مؤهلين بقوا كما هم، أو هربوا ليكونوا أتباعًا متحجرين لمحافظين في الطرف الآخر.
هذه الغربة تبحث عن أنس، كتب الأمس لا تكفي وكتب اليوم لا يوثق بها، كتب اللحظة براقة ولكن لها لغة مختلفة واهتمامات أخرى، إنها قادمة من عالم آخر، عالم شباب بدأ يهجره وراءه، وفكر شاب يبدأ الشروق.
الشرق مغدق كنوزه التي لم يعد قادرًا على التقاطها جميعًا، ثمار رائعة وشهية لا تقف عند حد، وعين خفت بريقها، ويد تضعف عن معاناة الكتاب، وزحمة حياة وقضايا أوسع من آفاق شخص، ولكنه وللأسف نفس الشخص القديم، يقوى عقله، فيضعف بدنه، يشرق يومه فيرى قِصره الشديد، يكتب سطرًا فينفتح أمام عينيه عالم لا طاقة له به، فليغلق دونه فيضان العالم.
ترى لو أن المفكر استطاع أن يكوّن شخصيته في العشرين، أيام الجهل المتعصب، ثم يغلق عليها هناك ألا ما كان أسعده! وإنها لحالة نفسية يجالد عليها مفكر في نهاية عمره. يتمناها ولا يجدها. إن يكن حقًّا يعاني من فهم الناس الصحيح له فهو ناجح جدًّا، إن كان مرتاحًا لفهمهم له فهو نفسه الذي كان قبل أكثر من عشرين عامًا أو ثلاثين، (لم تزد عن أمس إلا إصبعًا) كما قال شوقي في مجنون ليلى.
إن الوقار والمكانة الاجتماعية بين الإخوان والأصحاب والطلاب تتطلب مزاجًا جامدًا، وقوانين تكرار منضبطة، وجمودًا عند أمس، ويبوسًا على المواقف، يسمّونه ثباتًا، ويمدحونه بأنه ثقل ورزانة، ولكن لك الله أن أفذاذ البشرية لو وقفوا عند مقاييس المجتمع وعاداته وأقيسته ومصالحه ورزانته وثقله وعاداته وتقاليده لما وجدنا في حياة الإنسان شيئًا ممتعًا ولا جميلًا، ولا رأينا مغامرة نشكره عليها، ولا إبداعًا يفتح العين ويفل الحجاج، ويأخذ القلب معه في رحلة للقلب والعاطفة نحو بلاد للفكر والإبداع لم نسمع بها.
قليلون أولئك الذين يغادرون الأعراف لينزلوا مع العقل والقلب حيث نزلا، إنهم يهربون منهما، ويعكفون بعد الأربعين والخمسين على أطلال لهم، يحبونها لما تجلبه من ذكريات، وما توثق من عادات، وما تؤوي من أصدقاء، فنحن دومًا أبناء ما جرينا عليه، ونخاف من المغامرة فيما نحتاج إليه، والدروب التي لم تُعبّد ولم تُسلك يهزأ العقلاء من سالكيها، تجلب الضحك عليهم، غير أن غلمانا للناقدين سوف تعجبهم المحاولة بعد أن ثبت أنها ممكنة، ثم يدكها المشاة، ثم تصبح الجادة، ويصبح سالكوها راشدين على المنهاج.
وجاءت كلمة المنهاج هنا دون إعداد ولا انتظار، وهي من الكلمات التي تروق للجميع. هناك مناهج العادات، ومناهج العقول ومناهج العلوم، وكم تروعني هذه الكتب (كتاب توماس كون مثلًا) التي تكتب في مناهج العلوم وفلسفتها، إذ يبدو أن الأسئلة التي ثارت في اليونان ثم في بغداد وقرطبة، وفي لندن وباريس وبرلين ونيويورك، تولد من جديد الأسئلة نفسها بلا إجابات غالبًا. والممتع أن الإنسان في هذه الأحوال يقتنع بأنه قال وهو ربما لم يقل شيئًا رغم هذه السنين، ولكنه يحس أنه من العيب عليه أن يقال إنه لم يقل شيئًا. والجيد في قول الإنسان أنه ينتقد نفسه دون توقف، وفاضل من يجيب السؤال ويفتح باب الاحتمال.
إنهم يقدرونك غاية التقدير يوم لا تفاجئهم بشيء، ويخشونك إن كنت ذكيًّا، فالذكاء مرعب، وموقفهم منه صحيح، لزعماء العادات والتقاليد. وحراس هذه المتاحف العاجزون ولو لم تتحجر قلوبهم وتجف أفكارهم، لما حرسوا المتحف من العابثين الصغار ومن مغامري الأفكار الكبار.
سعيد من يأمن على نفسه من فكره، وعبقري من يحطم الأمن الفكري، ويجعله شذر مذر، ولكنه إن فعل فإن الناس يطلبونه أن يقف على أرض ليروه، فسهلٌ على أحد الناس أن يقفز من النافذة، غير أن وقوعه على قدميه مشكوك فيه، وصعب على سكان مدينة أن يضعوا اللبادات تحت المصممين على القفز من النوافذ العالية، ومن يحب أن يتمتع بحرية القفز من النافذة لا يرغب أن يكون مشهورًا. ولا يحب أن يكبر من يضحك الناس الكبار، فيحرجهم عندما يريهم طفولتهم المتأخرة.
إنه يقول تعالوا إليّ وغامروا معي في بحار الأفكار معاشر الكبار الصغار، وهل نسيت أنهم لم يعودوا يقوون على السباحة، ولا أقدامهم تحتمل، ولا قلوبهم تتحمل التعب! فيقول لهم فلم توقفون القلوب عن النبض، والعقول عن الخيال، وعمّا خلقت له! يقولون هذا العرف والواجب، فيصرخ بهم وأين التوحيد؟ ألم نتفق في البداية على تكسير الأصنام؟ أم إنكم فقط تقصدون الأصنام الصغيرة من الطين والحجر؟ إبراهيم أراد بهدم الحجر هدم القلوب المتحجرة التي عمرتها الأحجار، وإلا فيبدو أنكم لم تنتبهوا لمغزى إبراهيم، أشك في ذلك، ولو كان كذلك الموحدون في جيش عمرو بن العاص لذهبوا يكسرون أصنام الجيزة، ومنفيس والأقصر، حيث الأصنام الصغيرة السهلة، ولو كان كذلك لاشتغل قتيبة بن مسلم بأصنام بوذا يدمرها، فهل هناك خلاف كبير بين السلف والخلف على تعريف الصنم، فقد فهمه العباقرة فكرة هو رمزها فهدموها قبلها، وفهمه الخالفون حجرًا فهدموا الأحجار وأبقوا على رمزية تحجير الفكر.
لا أحب أن أكون مغامرًا كما أريد وسأحافظ على الصمود، لأقول متفقون مع السلف ولكنهم هدموا الأصنام الأخطر، وهدمنا الأصنام الأسهل، فنجحوا، وذهبنا نبحث عن رؤوس في الصخور. ولنعيد قصة معارك الأيقونية واللا أيقونية في عصور النصارى المظلمة، فلكل قوم عصورهم المظلمة، وحين كانوا يعتركون على قطع رؤوس التماثيل (الأصنام في أوروبا) كان يستعبدهم أصنام حقيقية حية ومتحركة تسومهم سوء العذاب، تمامًا كما نفعل اليوم، يسومنا الصنم العذاب فنهدم التمثال القديم، ونتحدث عنه كثيرًا ونحن نستغرق في نحت الأصنام الأسوأ رمزًا وشكلًا!
يبدو أن نصيب بعض الصادقين من المسلمين مع أمتهم، هو نفسه عيبهم ومصدر ضعفهم؛ أنهم يباركون العاكفين على أصنام لهم، وهنا لعلك تدرك حكمة النبوة بعد الأربعين، إنها أيضًا بجوار ما قالوه قطيعة مع العرف ومع العادات ومع مقتضى رزانة الكبار، وقدرهم، ولله در الشجعان الذي استطاعوا أن يحملوا المعاول ويهدموا خرائب الأصنام في قلوبهم وعقولهم، أما الذين هدموا أصنام هبل بعد أكثر من عشرين عامًا من هدمها في القلوب فقد كانت أيديهم قوية وكان سعيهم مشكورًا، وكانوا مقلدين صادقين للذين حطموها وهاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة، يوم هدمت تلك الأصنام لم نر سواعد خديجة وعلي وسعد وأبي بكر وعثمان وعمار وأمه، لم نر المحطمين الأول، رأينا التلاميذ النجباء، رأينا الصحابة يهدمون، ولم نر المعاول بأيدي “أصحابي” الذين حملوا المعاول الأصعب، وانتصروا في المعارك الأقسى، معارك من مستوى معارك أبي بكر: “إن كان قال فقد صدق” تصديق مرعب ورحلة في المستقبل وهدم للأصنام في الرؤوس أوحت بمستقبل الأحجار الأصنام.
وحتى هؤلاء الذين حطموا أصنام مكة، لم يهمهم أن يكرروا ذلك، فهي عندهم حفلة النصر ومباهج كسب المعركة، قد لا يكونون حريصين عليها؛ لأنهم يحبون تقليد محطمي الأصنام الحقيقية، يتمنون أن يكونوا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وابن مسعود وخديجة وعمار، يتمنون أن يكونوا كرجال الصف الأول وليس كالذين شهدوا حفل يوم الفتح، ولهذا كان همهم قهر الأصنام في القلوب، في فارس والروم وخراسان والهند وأفريقيا والصين وأوروبا، كانوا يشتاقون أن يكونوا كالمحطمين الأول.
لكأن المطلوب من المفكر اليوم أن يحتفل، وليس المطلوب منه أن يغزو، قد يقبل الأكثر بالمشاركة في الحفلة المستمرة، ولكن للعباقرة مواطن أخر، يرونها فيهبون لها، قد يستعجلون فيقفزون مع النافذة، ولكنهم حتى بهذا يدلون على السأم من حفلة مكررة التهى بها الجمع عن العمل، لن يعجب أحد بالذين يفارقون الحفلة اليوم، ولكن أعينا سوف تتبعهم، ثم رؤوس وأقدام وتكون طريقًا وجادّة، وجمع كبير وهدم لأصنام ثم تكون احتفالات كبيرة، قد لا يسعفنا الزمن أن نراها كلها ولكنها واعدة وستقع.
ثم تكون معتادة، ويأتي نجيب آخر ويتمرد على الحفل، ويكره تهديم هذه الصخور التي أصبح تكسيرها بلا معنى ليذهب ويرى الناس أصنامًا أخر لم يروها، بدأ نحتها في الاحتفال، وتتبعه قلة، تخالف سنة الناس، وتتبع سنة المصطفى ﷺ، ويغيرون على أصنام عجيبة لم ترها عين من قبل، ويوقعونها من القلوب ثم تأتي الجماهير وتحتفل بكسر الصخور الجديدة، وفي أوج الحفل ينتبه آخر لأصنام جديدة وهكذا، تلك من مسيرة التجديد للعقل وللقلب وللدين، حتى يأذن الله بشأن آخر.