تفسير القرآن الكريم من خلال تنوع القراءات: إن هذا القرآن العظيم الذي هو كلام الله تعالى، المعجز في بلاغته، الدقيق في اختيار حروفه وكلماته وعباراته، يجب على العلماء والباحثين الجادين أن لا يدخروا جهداً في معرفة أسراره البلاغية، والكشف عن معانيه المفيدة، وبيان مقاصده الكبرى.
وقد أدرك علماء التفسير قديماً أن القراءات القرآنية سواء كانت متواترة أم شاذة، تعطي الآيات الكريمات في القرآن معاني جديدة ومتنوعة من دلالاتها ومعانيها.
وإذا كانت الآية الكريمة الواحدة في كتاب الله تعالى تحتمل أكثر من معنى، فيجب حمل تلك المعاني كلها عليها؛ لأن كلام الله تعالى فيه سعة، ويحتمل كثيراً منه المعاني والأوجه، لإعجازه وبلاغته وبديع نظمه ولا غرابة في ذلك؛ لأن آياته فُصِّلَتْ من لدن حكيم عليم جلَّ في علاه.
وحيث أن القرآن المجيد أنزله الله تقدست أسماؤه على وجوه القراءات المختلفة، وتكفَّل سبحانه بحفظه وترتيله على الوجه الذي اُنزل، جاء مُصَرَّفاً على أوسع اللغات وهي العربية، تيسيراً للأمة ورفعاً للحرج عنها من جهة. ومن جهة ثانية لِمَا لذلك من أثر بالغ في التفسير واستنباط المعاني، واستخراج الأحكام والشرعية التي تنفع المسلمين في دنياهم وأخراهم. وما ذلك إلا دليل من دلائل عظمة هذا القرآن وإعجازه وبديع نظمه.
على أن لتعدّد القراءات وتنوّعها فوائد جليلة وآثار بالغة في تفسير كتاب الله تعالى واستنباط المعاني منه، مع عدم الوقوع في التناقض والتعارض بين المعاني والاختلاف بينها. ذلك أن تنوّع القراءات يقوم مقام تعدّد الآيات من غير تضاد بينها في المعاني. ولذلك فإن الاختلاف الحاصل بين القراءات هو اختلاف تنوّع وتكامل في المعاني، لا اختلاف تضاد وتناقض. قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [النساء: 82].
ومن التنبيه بمكان أن الاختلاف في “الأحرف السبعة” التي نزل بها القرآن الحكيم، والمنصوص عليها من النبي ﷺ، راجع إلى اختلاف في اللهجات العربية. وهو من باب التيسير على الأمة ورفع الحرج عنها من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن ذلك يعود إلى سعة اللغة العربية، واتّساع معانيها، وثراء مفرداتها، وتنوّع دلالاتها.
وإن تعدّدت الطرق والوسائل إلى فهم معاني القرآن الكريم، فإنها ترجع في تفصيلها وبيانها إلى هذه اللغة التي نزل بها الكتاب العزيز، والتي أودع الله جلَّ ذكره فيها من الأسرار البيانية ما يعين على فهم كتاب الله تعالى.
وقد استمرت جهود العلماء في دراسة اللغة العربية مع تعاقب الأزمان، وبرز طوال القرون السابقة جهابذة وأفذاذ من العلماء استغرقوا جياتهم في البحث والتدقيق في مسائل اللغة والبحث في فنونها وآدابها، فقدَّموا لدراسي العربية خدمات جليلة في الكشف عن جمالها وسعتها وقواعدها.
كما تصدَّى لتفسير القرآن العظيم وبيان معانيه جلة من علماء المسلمين على مرِّ العصور، غاصوا في أعماقه والتقطوا نفائسه ودرره، وقدَّموها لنا بأساليب متنوعة ومناهج رصينة. وبهذا التراكم العلمي المنقطع النظير، ظهر في كل عصر، وفي كل بيئة إسلامية مصنفات تضيف أبعاداً جديدة لعلم التفسير على مرِّ العصور.
فمن فضل الله تعالى على هذه الأمة أن سخَّر لكتابه العزيز ثُلَّة من العلماء الأتقياء المتقنين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة القرآن، وتوضيح معانيه، وبيان أسراره وحكمه، وما اشتمل عليه من روائع في الإعجاز والبيان والنظم.
ومما لاشك فيه أن القراءات القرآنية لون من ألوان الإعجاز العلمي؛ فبتعدّد القراءات تتسع المعاني وتتنوَّع. وفي هذا قال محمد عبد العظيم الزرقاني: “إن تنوّع القراءات يقوم مقام تعدّد الآيات، وذلك ضرب من ضروب البلاغة، يبتدئ من جمال الإيجاز وينتهي إلى كمال الإعجاز. أضف إلى ذلك ما في تنوّع القراءات من البراهين الساطعة والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله تعالى، وعلى صدق ما جاء به رسول الله ﷺ. فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاده. بل القرآن كله على تنوّع قراءاته يصدِّق بعضه بعضاً، ويبيِّن بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير، وهدف واحد من سمو الهداية والتعليم، وذلك من غير شك يفيد تعدّد الإعجاز بتعدّد القراءات والحروف”([1]).
وبناءً على هذا، يتبيَّن بشكل واضح وجليّ ما للقراءات من أثر بالغ في تفسير كتاب الله تعالى، واستنباط المعاني منه، واتِّساعها وتنوّعها؛ إذ إنَّ كل قراءة توضّح وتبيّن معنىً جديداً لم تبيّنه قراءة أخرى. فالتعدد في القراءات بمثابة التعدد في الآيات، إذ يوضح بعضها بعضا، ويبين بعضها بعضا. وقد تبرز قراءة معنىً جديداً في الحكم لم تبرزه قراءة أخرى. فهي حلقات متصلة في سلسلة واحدة مترابطة محكمة، ومتكاملة في المعاني والأحكام.
على أن الخلاف الجائز في تعدد القراءات هو خلاف الأوجه الذي جاء على سبيل التنوع والتوسع لا التضاد والتناقض؛ لأن النص الحكيم لا اختلاف فيه ولا تضاد، فهو من لدن العليم الخبير الحكيم جل في علاه: { ألر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود: 1].