أدرك الشيخ عبد الحميد بن باديس منذ أول وهلة أن الشعوب لا تهزم إلا إذا فقدت هويتها الثقافية، وأن الوجود الفرنسي إلى زوال ـ بغض النظر عن حساب الزمن ـ ما استمسك الجزائريون بعروة الدين واللغة والتاريخ، لذلك قرر أن يبدأ مشروع كفاحه بـ”المقاومة الثقافية”، والوقوف أمام محاولة الإدماج الحضاري الذي كانت فرنسا وبعض النخب الجزائرية تسعى له.
وعلى الرغم من قوة موقفه تجاه الوجود الفرنسي على أرض الجزائر إلا أنه كان حريصا على لَجْمِ عواطفِه أمام متطلبات مشروعه التحرري الإصلاحي المتدرج، لذلك لم يمانع ـ مرحليا ـ من قبول الحماية الفرنسية بشرط مساواة المواطنين الجزائريين مع المواطنين الفرنسيين في الحقوق والواجبات، والاعتراف بخصوصيتهم الثقافية والدينية.
ومواقفه ومقالاته وحواراته مع الحكام الفرنسيين نابعة من هذه الرؤية، إلا أن مقالته المنشورة في مجلة الشهاب في فبراير 1937 والمعنونة بـ”الجنسية القومية والجنسية السياسية” أكثر صراحة وأقوم قيلا.
الجنسية القومية
لقد شرح ابن باديس مراده بالجنسية القومية فقال:”… فالجنسية القومية هي مجموع تلك المقومات وتلك المميزات، وهذه المقومات والمميزات هي اللغة التي يُعْرِبُ بها الشعب ويتأدب بآدابها، والعقيدة التي يبني حياته على أساسها، والذكريات التاريخية التي يعيش عليها وينظر لمستقبله من خلالها والشعور المشترك بينه وبين من يشاركه في هذه المقومات والمميزات”.
تتحدد من خلال هذه المقولة ثلاثة عناوين رئيسة تشكل هويةً ثلاثية الأضلاع، أولها اللغةُ كأداة للتواصل ووعاء للفكر، وثانيها الدينُ كرابط كلي تنطلق منه المبادئ الموجهة للعقل والقوانين المسيرة للحياة والأشواق المشتركة الضامنة لوحدة غاية الفعل الحضاري، وثالثها التاريخُ المشترك الذي يوطِّدُ الأواصر ويبعث على اللحمة الضرورية للكفاح من أجل البقاء بل للنهوض الحضاري بأي أمة.
وإذا نجحت أي أمة في الحفاظ على هذه الأضلاع الثلاثة امتلكت شخصيتها الحضارية المميزة وأصبحت قادرةً على الاستفادة والإفادة من الآخر، لذلك لم يكن مفهوم الجنسية القومية لدى ابن باديس يعني الانغلاق على الذات وتجريم التعاطي مع ثقافة الآخر ـ ولو كان مستعمِرا ما يزال يجثم على الأرض ـ.
انفتاح في حضن الذات
أسس بن باديس خطته التربوية على مناجزةَ المستعمر من خلال فضائه الثقافي (اللغة الفرنسية)، ولذلك نظم بـمقر رابطة الإغاثة الإسلامية بقسنطينة -وبـمساعدة تلامذته- دروسا مسائية للكبار كان برنامجها يتضمن تعليم اللغتين العربية والفرنسية، أما الصغار فكان حريصا على تنشئتهم في فضاء ثقافي عربي إسلامي حتى تتشكل شخصياتهم وفق ثقافة الإسلام وحاضنته اللغوية (العربية)
ولعله كان يرمي من وراء ذلك إلى تكوين جيل قادر على إيصال صوت الجزائر المطالب بالحرية والفاضح لسياسات الاستعمار الفرنسي الجائرة إلى منابر الرأي العام والقرار السياسي الفرنسي بلغة فرنسا ذاتها، بل ربما كان طموحه أن يغزو المجتمع الفرنسي برسالة الإسلام، وقد ألمح المستشرق الفرنسي ماسينيون إلى شيوع هذه الفكرة لدى كثير من الجزائريين حين قال: إنه تسود الشعورَ الإسلامي ـ في الجزائر بصفة خاصة ـ عاطفة غريبة جداًّ، وهي طموح المسلمين لأن يشقوا للإسلام طريقاً في عقول الفرنسيين وأرواحهم وأنفسهم، ويضيف إلى ذلك ملاحظة أخرى تشير إلى أن في الجزائر كُتّاباً مسلمين يجيدون الفرنسية أيما إجادة، ويستخدمونها في بث الدعاية في فرنسا.
تعدد الهوية ووحدة المصير
وهي فكرة ظل ابن باديس يلح عليها في كتاباته وفي حواراته المباشرة مع الحكام الفرنسيين، وهو ما سماه (الجنسية السياسية)، وهي: “أن يكون لشعب مَا لشعبٍ آخرَ من حقوق مدنية واجتماعية وسياسية مثل ما على الآخر من واجبات اشتركا في القيام بها لظروف ومصالح ربطت ما بينهما”، ويشير هنا إلى مشاركة المجندين الجزائريين فرنسا في معاركها إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وإذا كان الظاهر من خلال كلام ابن باديس قبول استمرار الحماية الفرنسية على الجزائر، وفق شروط محددة، فإن مسار نضاله يكذب هذا الزعم ويلزمنا بفهمه في سياق مقاصدي تدرُّجي، وهو ما يتضح من خلال قوله في نفس المقال”…أما من الناحية السياسية فقد قضى قانون(1865) باعتبارنا فرنسيين، لكنه نُفِّذ ويُنَفَّذُ تنفيذا جائرا فيفرض علينا جميع الواجبات الفرنسية دون حقوقها فكنا كما قال الشاعر:
وإذا تكون كريهة أُدْعَى لها … وإذا يُحَاسُ الحَيْسُ يدعى جندب”.
كما أن الشروط التي يضعها إلى جانب هذا المقترح تكاد تنسفه من أساسه، فهو يشرط لاستمرار هذه الحماية أن يتم رفع الوضع القانوني للشعب الجزائري حتى يتساوى في الحقوق والواجبات مع الشعب الفرنسي، مع احترام خصوصيته الدينية واللغوية والثقافية.
ويرى أن غير ذلك لا بد أن يؤول إلى أحد أمرين:”…إما أن يندمج أضعفهما في أقواهما بانسلاخه من مقوماته ومميزاته فينعدم من الوجود، وإما أن يبقى الضعيف محافظا على مقوماته ومميزاته فيؤول أمره ـ ولا بد ـ إلى الانفصال”
وصفوة القول أن ابن باديس كان رجل إصلاح عقلانيا مستنيرا، وتصوره للوطن والمواطنة الذي انبثقت منه فكرة الجنسية السياسية والجنسية القومية خير دليل على ذلك، إذ يعتبر سبقا فكريا في مقاربة حقوق الأقليات في ظل الدولة متعددة الأعراق والديانات، وإمكانية التعايش بينها على أساس من مبدأ المواطنة القائم على تقاسم ريع الدولة كعقار مشترك، واحترام الخصوصيات الثقافية والدينية والمساواة في الحقوق والواجبات.