ذكرت فيالمقال السابق أن لدينا ثلاثة مستويات من الإحسان والعطاء؛ هي: كف الأذى، والعطاء المادي، والعطاء المعنوي، وتحدثت عن كف الأذى بوصفه نوعاً من العطاء، وسأتحدث اليوم عن بعض ملامح العطاء المادي، والمعنوي في المفردات الآتية:

تزداد أهمية المال في حياة الناس بسبب وجود كثير من الحاجات وبصورة متزايدة – التي لا يمكن قضاؤها من غير المال، بل إن من الممكن القول: إننا نسير في اتجاه انعدام الأشياء المجَّانية، وهذا يعني أننا على المستوى التربوي والدعوي مطالبون بتنمية مشاعر الإحسان، وأخلاقيات العطاء المجاني لدى الناشئة، ولدى الكبار على وجه العموم.

نحن نعرف أن سد حاجات الناس، وتحقيق درجة عالية من التضامن الاجتماعي ينبغي أن يحدث عن طريق النظم والتشريعات الاجتماعية، لكن علينا أن نقول أيضاً: إن كل النظم التي يضعها البشر مصابة بالقصور الذاتي، ونقص الكفاءة؛ ولهذا فإن العمل الخيري، وأعمال البر والإحسان، وكل صور المساعدة المادية، تكون نوعاً من الاستدراك على قصور تلك النظم، ومن غيرها ستظل لدينا ثغرات، لا نعرف كيف نسدها.

ومن هنا ندرك الثواب العظيم الذي وعد الله به عباده المتصدِّقين، حيث قال – سبحانه -: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[1].

وقال – عز من قائل -: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}[2].

إن الجزاء على الإنفاق في سبيل الله يتخذ صورا متعددة، فهناك جزاء في الدنيا في صورةِ وفرةٍ في الرزق، وفي صورة دفعٍ للبلاء، وشفاء من الأسقام. وجزاء في الآخرة في صورة حسنات كثيرة تصل إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة. ونجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – يرغِّب كلَّ مسلم في أن تمتد يده بالعطاء والخير مهما كانت أوضاعه المادية عصيبة، وهذا ما نلمسه في قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة))[3].

وكان – عليه الصلاة والسلام – يقدم من نفسه النَّموذَج الأسمى في الكرم والجود، فقد قال جابر – رضي الله عنه – “ما سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئاً قط، فقال: لا”[4].

وفي رصيد أمة الإسلام من الصور والأخبار والنماذج المشرفة في ميدان الصدقة، والإيثار، والمواساة ما يقل نظيره لدى أمة أخرى.

قد لا نستطيع أن نقدم أشياء كبيرة، أو ذات قيمة عالية، لكننا نستطيع أن نقدم ما نود تقديمه بطريقة جميلة وعظيمة، بل نستطيع أن نجعل من طريقة تقديم المعروف شيئاً مدهشاً ومثيراً، يشبه لوحة فنية جذابة، تخيلوا معي رجلاً يريد أن يتصدق على بعض إخوانه الذين يصلون معه في المسجد، فتنحى به في زاوية من زوايا المسجد بعد أن انصرف الناس، وأخذ يسأله عن حاله وحال عياله، ثم دس في يده شيئا من المال قائلاً: هذا شيء قليل وزهيد، وهو أقل من حقك علي، وما أنت فيه إنما هي أزمة عارضة، وسيأتي الله بالفرج، وستتحسن الأحوال، ولا تنسني من صالح دعائك، وإذا كنت ترى أنني أستطيع مساعدتك في الحصول على عمل، فأنا مستعد لتقديم الخدمة.

إن ما صاحب المال القليل الذي وضع في يد الفقير هو أكبر من المال وأهم، وهذا في مقدور كلِّ واحد منا أن يفعله. وقد أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أهمية طريقة تقديم الصدقة حين ذكر أن من السبعة الذين يظلهم الله – تعالى – في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه”[5].

النوع الثالث من العطاء هو العطاء المعنوي، وهو العطاء الحقيقي، وهذا موضع اتفاق، فأكثر شخص في العالم يشعر الناس بأنهم مدينون له، وعاجزون عن مكافأته هو الأم.

وعطاء الأمهات في معظم الأحوال ليس عطاء مادياً، وإنما هو الشفقة والرحمة والاهتمام، والعطاء المجاني السخي وغير المشروط، والشغف بالخدمة على امتداد الحياة. والعطاء المعنوي هو ما قدمه الأنبياء – عليهم السلام – للعالم عبر التاريخ، وهو ما قدمه، ويقدمه المصلحون والدعاة والعلماء، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. يقول أحد الحكماء: “إن ما نهديه من مال وجواهر وخواتم ليس هو الهدايا الحقيقية، إنه اعتذار عن الهدايا الحقيقية، إن الهدية الحقيقية هي قطعة من الروح، وبَضْعَة من النفس”.

إن المسلمين يملكون اليوم الكثير من الأدوات والكثير من الأسباب، لكنهم حائرون في تنسيقها وإدارتها واستثمارها على النحو المطلوب؛ ولهذا فإن المجتمعات الإسلامية اليوم في أمس الحاجة إلى من يمنحها الرؤى، والأهداف، والغايات الكبرى والمرحلية، كما أنها في أمس الحاجة إلى من يمنحها الأفكار والمفاهيم التي تستخدمها في فهم العالم، واستيعاب المعطيات الجديدة، والتعامل معها على نحو مثمر ومنتج.

إن كثيراً من الشباب يشعرون باليأس والإحباط؛ بسبب سوء الأحوال وتدهور الظروف المعيشية، وهم في حاجة إلى من يمنحهم الأمل. ويبث فيهم الحماس للعمل، ويفتح أمامهم آفاقاً جديدة للتقدم. أضف إلى هذا أن هناك أعداداً كبيرة من المسلمين الذين لا يعرفون عن دينهم إلا القليل، وهم يحتاجون إلى تفهيم وتعليم، وهناك أعداد أخرى ضلوا الطريق؛ بسبب خضوعهم لغرائزهم، وهم يحتاجون إلى من يرشدهم إلى طريق الهداية، ويعينهم على أنفسهم.

يأتي في قمة العطاء المعنوي أن يجعل المرء من نفسه نَمُوذَجاً يقتدي به الفتيان والشباب على صعيد السمو الخلقي، والنقاء السلوكي، وعلى صعيد الأداء الجيد والنجاح الباهر والتفوق العظيم. إن علينا أن نتعلم من جديد فنون العطاء المعنوي، وعلينا أن نجاهد أنفسنا من أجل سلوك دروبه، ومن الله – تعالى – الحول والطول.


[1] سورة البقرة: [261].

[2] سورة البقرة: [272].

[3] متفق عليه.

[4] متفق عليه.

[5] رواه مسلم.