الذوق في حياتنا، ضرورة تساهم في تحسين جودة الحياة والتواصل الإنساني، لكن ثقافة الذوق، تعاني أزمة في ظل تنامي الفردية، واقتصار الذوق على الأزياء وتناسق ألوانها، والعطور وتناغمها، والأطعمة ومذاقاتها، في حين غاب عن الكلمات والسلوكيات، التي أصبحت جافة وقاسية وخالية من الرحمة والمشاعر.
والذوق خليط من المشاعر والسلوكيات، تجمع بين الحس المرهف، ومراعاة الآداب في المواقف، بما يقتضيها من القول والفعل المناسب أداءا أو امتناعا، ومعرفة ما هو لائق ومناسب في العلاقات الاجتماعية، واختصارا يرمز إلى الشخص المهذب ذو الخُلق القويم، فالذوق يساهم في ارتقاء الأمم، ليتحول مع كثرة الممارسة من مسلك فردي إلى ظاهرة اجتماعية تمارسها الغالبية بلا تكلف ولا عنت، فتنطلق ألسنتهم بالثناء والشكر، مع كل معروف يُقدم، ويتخيرون كلماتهم بعناية بعيدا عن الغلظة والخشونة، ويعاملون غيرهم كبشر بلا تمييز أو عنصرية.
في كتابه “إلى ولدي” تحدث الأديب “أحمد أمين” باستفاضة عن ثقافة الذوق، وأشار إلى مفهوم ذو أهمية وهو الذوق العام، الذي تتميز به أمة ما وتتشربه نفوس أبنائها حتى يصير لها نهجا ومسلكا، فقال: “يظهر لي أن للأمة ذوقا عاما، كما أن لها رأيا عاما، وعرفا عاما، لكل دائرة اختصاص لا يتعداها، فالرأي العام مداره الآراء والأفكار والمعقولات، والعرف العام، مداره العادات أما الذوق العام فمداره الفن والجمال.
هذا الذوق العام للامة يستبد بالأفراد استبدادا لا حد له، فالناس جميعا خاضعون لأنواع شتى من الاستبداد كاستبداد النظم السياسية، واستبداد العقول، واستبداد الرؤساء، ولكن هذه كلها محدودة الدائرة، أما استبداد الذوق العام فلا حد له، ولا سلطان يشبه سلطانه، ذلك أنه بجانب الذوق العام للأمة ذوق خاص بالفرد، فكل فرد له ذوقه الخاص، يستجيد به بعض الأشياء، ولا يستجيد بعضا، ويستحسن به ويستهجن، ويستجمل ويستقبح، ولكنه في ذلك مسلوب الحرية خاضع خضوعا تاما للذوق العام”.
الذوق والحداثة
جوهر ثقافة الذوق هو مراعاة الآخرين، والابتعاد عن إيذاءهم بأي شكل من الأشكال، حتى ولو بالكلمة القاسية، أو تعابير الوجه، وتلك الروح المتعالية في التعامل هي الجوهر الحقيقي للتدين، والوجه الأصيل للدين، لكن مشاهدات الحياة تؤكد أن الذوق آخذ في التآكل منذ عقود طويلة، لغياب المعايير الأخلاقية والدينية القائم عليها، فمع ضغط الحداثة والعلمنة، وتشكل المجتمعات الصناعية، وإبعاد الدين عن التأثير في الحياة العامة، والأخلاق العامة، أخذ الذوق يتراجع.
فرغم إيجابيات الحداثة في التجربة الغربية، إلا أنها أحدثت شروخا عميقة في المجتمع وفي الذات الإنسانية، بسبب القطيعة مع الماضي، ونزعة التمرد التي تميزت بها ضد الجمود الديني، والتي تحولت إلى غضب عارم تجاه الدين ورفض لكل مقولاته وأفكاره، وسعيها للابتعاد عن الأخلاق وأطرها المعيارية، فأصبح السلوك الإنساني طليقا بلا أي رادع أخلاقي أو ديني، باستثناء القانون الذي تم إقراره لتنظيم حياة الناس.
ومع تلك الروح، أخذ الضعف الأخلاقي يطرق أبواب النفس والمجتمع، وفي ظل سيطرة معيارية الربح على الإنسان الحداثي توارت معيارية الخير والشر، فتراجع الذوق ليتلبس بالأشياء المادية في الملابس والعطور والأطعمة وتسريحات الشعر، وغيرها، ويترك ميدانه الأساسي وهو التفاعلات والعلاقات بين البشر، لذا كانت النتائج كارثية إنسانيا.
ومع تغييب المعنى عن الحياة، ارتوت الفردانية وأثمرت ثمارها الفجة، فبات الشخص لا يعنيه إلا نفسه، ولا يهتم بتحسس كلماته وإنتشالها من الغلظة والقسوة إلا بالقدر الذي يحقق له الربح، فلم تُمنح الابتسامات إلا لمن يدفع ثمنها، وفي ظل تراجع المعايير الدينية والأخلاقية للسلوك تراجعت وصمة الاستهجان للذوق السيء، وعانى الذوق من الانحدار مع مرور الزمن، فقل الاحتشام في الملابس، ووصل بالبعض أن يمشي في الشوارع وهم شبه عرايا، دون أي إحساس بخجل، ودون أن ترى في وجوه الآخرين أي استهجان، ومع اختفاء وصمة العار من الذوق السيء، جاءت الموضات ضد الذوق، من ملابس ممزقة، لا تعرف الستر، ووشم على الأجساد، وتشويه للوجوه تشبها بالشيطان، الذي صارا مصدرا لتلك الأذواق البائسة، وأصبح ما يراه الشخص هو الصواب أو الخطأ، فتراجع الذوق العام لصالح الأذواق الفجة في كل شيء.
وتأتي العدمية (1) كأحد تجليات الحداثة، والتي رفضت جميع المباديء الدينية والأخلاقية، ومعها تدنت الأذواق في كل شيء، كذلك كان الإيمان المفرط بالحرية، أحد أسباب تراجع الذوق، فرغم أن الحرية مثل الترياق والدواء، تحقق الشفاء والعافية، إلا أن جرعاتها المفرطة في الجانب الفردي، شجع الأذواق السيئة لتطفو على السطح، وفي العصر الرقمي كان الاحساس بخطر الأذواق المتدنية عميقا، في ملايين المواقع الإباحية ومئات الملاييين من الصور والفيديوهات ذات المحتوى الفاحش التي تبث كل يوم.
أما تفاقم الهوس بالمحظور والممنوع، والرغبة في كسر “التابوهات” في الدين والجنس، فكان مدعاة لتدني الأذواق، وانتشار الفحش في الكلمة والملبس والصورة، بل وُجد من شجع على عودة البدائية كنمط للحياة، وما تحمله تلك البدائية من ابتذال وانتهاك للحرمات وتدني في الأذواق، فكان الصخب شديدا في الموسيقى والملابس والأفلام والعنف والإغاني والعلاقات الإنسانية، وكما قال الأديب الفرنسي “تشارلز سانت بوف”: “الذوق السيئ يؤدي إلى الجريمة”، وذلك لأن الأشخاص الذين يفتقدون الذوق، يفتقدون الحكم على الأشياء من خلال معيارية الخير والشر، فصار الذوق السيىء من مسببات الجريمة.
فالذوق الرخيص يشجع الإنتاج الرخيص، وغياب الأذواق يشجع التنميط في الإنتاج، ومع الاعتياد على القبح، أصبحت الكثير من الأشياء الفجة مقبولة، ووقف وراء هذا القبح اقتصاديات ضخمة تشجع الموضات المنافية للذوق، اقتصاديات حرضت على الصخب والضجيج والعري والعنف.
وكان العصر الرقمي امتداد للحداثة، فجاء بمعيارية أخرى هي “التفاهة” و”الضحالة” التي سيطرت على الأذواق، فيستطيع مقطع هابط على اليوتيوب أن يحقق مئات الملايين من المشاهدات والإعجابات، ليصبح مصدر إلهام لمئات الألوف حول العالم.
تنمية الذوق
الذوق فطري في الإنسان، لكن المجتمع هو من يرعاه وينميه من خلال ثقافة الذوق والقيم التي يغرسها مبكرا في أبنائه، والممارسات السلوكية الرحيمة والعطوفة والمتعاونة التي يبثها بشكل يومي من خلال أنشطة الحياة وتفاعلاتها، وتنمية الذوق يفرض ابتداءً استعادة معيارية الخير والشر، أي استعادة المعيارية الدينية والأخلاقية في الحكم على السلوك، هذه العودة تنمى الضمير والاحساس بالواجب والرحمة والحس المرهف، والعطف على الآخرين والتعاون معهم والرحمة بهم، لذلك نجد في الإسلام الكثير من النصوص التي تؤسس للذوق الرفيع، مثل: تشجيع روح الابتسام في المجتمع، حتى إن النبي-ﷺ- جعل تبسم الرجل في وجه أخيه نوعا من الصدقات.
كما أن الإسلام جعل الكلمة الطيبة صدقة، وحث المسلمين على تقديم كلمات الشكر عندما يُقدم إليهم معروفا، واعتبر أن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، كذلك حث على الرفق في كل شيء، وشجع الحياء واعتبره شعبة من الإيمان، ورأى فيه مصدرا لكل خير، وحث على الذوق في التعامل بين الناس، مثل: الإفساح في المجالس، وعدم مخالطة الناس إذا أكل الشخص أكلات تنتج روائح غير جيدة مثل الثوم والبصل، وحث على الابتعاد عن الجدل العقيم، الذي يفسد المودة بين الناس، كما اهتم باحساس ذوي البلاء، وأن يتحسس المرء كلماته معهم حتى لا يؤذي مشاعرهم، وحث على الامتناع عن إفساد نوم الناس وخلواتهم في أوقات راحتهم مثل القليولة أو الساعات المتأخرة من الليل، وحث على احترام كبار السن ومراعاة ضعفهم وقلة تحملهم، وحث على الرحمة بالصغار والنساء والعمال والخدم، وحث أن يُعطى الشخص المكانة التي يستحقها، فلا يُبخس حقه في الاحترام والتقدير.
يقول أحمد أمين:” لقد جربت الناس فوجدتهم يخضعون للذوق أكثر مما يخضعون للمنطق، فبالذوق لا بالعقل تستطيع أن تستميلهم، وأن تأسرهم، وأن توجههم، وأن تصلحهم إن شئت، أما العقل وحده فلا يستطيع أن يأسر إلا الفلاسفة وقليل ما هم”.