هذه ثلاث مسائل فقهية في حكم صلاة العيدين ، واجتماع العيد والجمعة ، وترك الجمعة والظهر إذا وافقهما العيد ، وما ورد في هذه المسائل من أحاديث وآثار ، وذكر اختلاف علماء السلف في هذه المسائل جميعا ، ثم بيان ما ترجح لدى أئمة التحقيق من علماء القرون المتأخرة ، لتيسير العمل بهذه الأحكام خروجا من دائرة الخلاف ، وليكون العامل بهذه الأحكام على دراية بمستندها الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع .
أولا : حكم صلاة العيد
فقد اتفق أهل العلم على مشروعية صلاة العيدين، اختلف الأئمة قديما في حكم صلاة العيدين ، هل هي واجبة على الأعيان ؟ أم على الكفاية ؟ أم أنها سنة مؤكدة ؟
القول الأول : أن صلاة العيدين واجبة على الأعيان ، وهو مذهب القاسم وأبي حنيفة ورواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الإنصاف (2/420) ، واستدلوا على ذلك بأدلة :
1- الحديث الأول : عن أبي عمير عن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار رضي الله عنهم قالوا : ” غم علينا هلال شوال ، فأصبحنا صياما ، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله ﷺ أنهم رأوا الهلال بالأمس ، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم ، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد “.
وفي لفظ أبي داود : ” أن ركبا جاءوا النبي ﷺ يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس ، فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم”. (رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان ، وصححه ابن المنذر وابن السكن والخطابي وابن حزم وابن حجر في بلوغ المرام .) وقال الحافظ في التلخيص : وعلق الشافعي القول به على صحة الحديث .
وفيه دليل : على وجوب صلاة العيد وأنها تقضى ، وعلى جواز صلاة العيد من الغد . وبه قال الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ، وهو قول للشافعي .
وروى الخطابي عن الشافعي : أنهم إن علموا بالعيد قبل الزوال صلوا ، وإلا لم يصلوا يومهم ولا من الغد ، لأنه عمل في وقت فلا يعمل في غيره ، قال : وكذا قال مالك وأبو ثور.
قال الخطابي : سنة النبي ﷺ أولى بالإتباع ، وحديث أبي عمير صحيح ، فالمصير إليه واجب . اه
2- الحديث الثاني : عن أم عطية الأنصاري رضي الله عنهما قالت : ” أمرنا رسول الله ﷺ أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العواتق والحيض وذوات الخدور ، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ” . وفي لفظ : ” ويشهدن الخير ودعوة المسلمين ” . قلت: يا رسول الله ، إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ قال : لتلبسها أختها من جلبابها “. ( رواه الجماعة) . ولمسلم وأبي داود : ” والحيض يكن خلف الناس ، يكبرن مع الناس “. وللبخاري قالت أم عطية : ” كنا نؤمر أن نخرج الحيض ، فيكبرن بتكبيرهم “.
قالوا : ولو لم تكن صلاة العيدين واجبة ، لما أمر رسول الله ﷺ النساء بالخروج ، وأكد على إخراج العواتق وذوات الخدور، بل والحيض أيضا ، وحتى المرأة لا تجد جلبابا ، تلبسها أختها من جلبابها ، لتشهد الصلاة .
3- الحديث الثالث : عن ابن عباس قال : ” كان رسول الله ﷺ يأمر بناته ونسائه أن يخرجن في العيدين ” رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة والطبراني والبيهقي . قال الأرناؤوط في تخريج المسند : صحيح لغيره. اهـ
4.الحديث الرابع : عن عمرة بنت رواحة الأنصارية : أن النبي ﷺ قال : ” وجب الخروج على كل امرأة ذات نطاق زاد أبو يعلى : في العيدين ” . رواه احمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير .
قال الشيخ الألباني رحمه الله في تمام المنة (ص 344 ) في تعليقه على قول سيد سابق : وهي سنة مؤكدة ، واظب النبي ﷺ عليها ، وأمر الرجال والنساء أن يخروا لها .
قال الألباني : فالأمر المذكور يدل على الوجوب ، فإذا وجب الخروج وجبت الصلاة من باب أولى ، كما لا يخفى ، فالحق وجوبها لا سنتها فحسب ، ومن الأدلة على ذلك : أنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يوم واحد ، وما ليس بواجب لا يسقط واجبا ، كما قال صديق خان في الروضة الندية . اه
وقال الشيخ الشوكاني : والظاهر ما قاله الأولون : أنها فرض عين ، لأنه قد انضم إلى تلك الأدلة ملازمته ﷺ لصلاة العيد على جهة الاستمرار ، وعدم إخلاله بها ، مع الأمر بالخروج إليها ، بل ثبت كما تقدم أمره ﷺ بالخروج للعواتق والحيض وذوات الخدور ، وبالغ في ذلك حتى أمر من لها جلباب ، أن تلبس من لا جلباب لها ، ولم يأمر بذلك في الجمعة ولا في غيرها من الفرائض ، بل ثبت الأمر بصلاة العيد في القرآن ، كما صرح بذلك أئمة التفسير في تفسير قول الله تعالى ( فصل لربك وأنحر ) الكوثر . فقالوا : المراد صلاة العيد ونحر الأضحية .
من مقويات القول بأن إسقاطها لصلاة الجمعة كما تقدم ، والنوافل لا تسقط الفرائض في الغالب .
هذه أدلة القائلين بوجوب صلاة العيدين
القول الثاني : أنها فرض كفاية ، وبه قال أبو سعيد الاصطخاري من الشافعية ، وحكاه المهدي في البحر عن الكرخي ، وظاهر مذهب أحمد بن حنبل وأبي طالب ، وأحد قولي الشافعي .
وحجتهم في ذلك أن المسلمين أمروا بها في الجملة ، وأنها شعار لهم ، وهي كالغسل والدفن للميت ، وبالقياس على صلاة الجنازة ونحوها ، وأنها لم يشرع لها أذان . انظر المغني ( 3/253-255) .
القول الثالث : أنها سنة مؤكدة ، وهو مذهب مالك والشافعي .
واحتجوا بحديث الأعرابي : هل علي غيرهن ؟ قال ﷺ :” لا ، إلا أن تطوع ” متفق عليه .
ولا حجة فيه ، لأن الأعراب لا تلزمهم الجمعة لعدم الاستيطان ، فالعيد أولى .
ثم هو من العام المخصوص ، لأنها صلاة عارضة كصلاة الجنازة .
ثانيا : ما جاء في اجتماع العيد والجمعة
ورد في هذه المسألة عدة أحاديث وآثار :
- الحديث الأول : عن إياس بن أبي رملة قال : شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم رضي الله عنه : هل شهدت مع رسول الله ﷺ عيدين اجتمعا ؟ قال : نعم ، صلى رسول الله ﷺ العيد أول النهار، ثم رخص في الجمعة ، فقال: ” من شاء أن يصلي فليصل ” وفي رواية : ” من شاء أن يجمع فليجمع ” . والحديث أخرجه أحمد وأبو داود و النسائي وابن ماجة وابن أبي شيبة في المصنف وابن خزيمة والطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي في السنن والحاكم وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .وله شاهد.
- – الحديث الثاني : عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال : ” قد اجتمع في يومكم هذا عيدان ، فمن شاء أجزأه من الجمعة ، وإنا مجمعون ” . رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، ورواه البغوي في شرح السنة .
- الحديث الثالث : عن أبي عبيد سعد بن عبيد قال : ” شهدت العيد مع عثمان بن عفان ، فجاء فصلى ثم انصرف فخطب ، وقال : إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان ، فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها ، ومن أحب أن يرجع ، فقد أذنت له “.رواه مالك في العيدين ( 1/179) وأبو داود في الصلاة (210) وابن ماجة ، وأصله في البخاري ( 1990 ) ومسلم في الصوم ( 138 ) .
- الحديث الرابع : عن عطاء بن أبي رواح قال : ” صلى بنا الزبير في يوم جمعة أول النهار – يعني صلاة العيد – ثم رحنا إلى الجمعة ، فلم يخرج إلينا ، فصلينا وحدنا ، وكان ابن عباس بالطائف . فلما قدم ذكرنا ذلك له ، فقال : أصاب السنة “. رواه أبو داود والنسائي من طرق وبألفاظ متقاربة ، وقال الحافظ : رجاله رجال الصحيح .
قال الشيخ الأمير الصنعاني في سبل السلام ( 2 / 112 ) : والحديث – يعني حديث زيد بن أرقم – دليل على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد تصير رخصة ، يجوز فعلها وتركها ، وهو خاص بمن صلى العيد دون من لم يصلها ، وإلى هذا ذهب الهادي وجماعة ، إلا في حق الإمام وثلاثة معهم .
ومنع من ذلك الشافعي وجماعة ، وأنها لا تصير رخصة ، لأن دليل وجوبها عام لجميع الأيام ، وما ذكر من الأحاديث والآثار لا يقوى على تخصيصها لما في أساندها من مقال ؟! ولا يخفى ضعف هذا !
– وقال الشوكاني في نيل الأوطار (2/273 ) : ويدل على عدم الوجوب : أن الترخيص عام لكل أحد ، ترك ابن الزبير للجمعة وهو الإمام إذ ذاك ، وقول ابن عباس ” أصاب السنة ” رجاله رجال الصحيح . وعدم الإنكار عليه من أحد من الصحابة .
المسألة الثالثة : إسقاط صلاة الظهر عند اجتماع الجمعة والعيد
هل من صلى العيد وسقطت الجمعة ، هل يصلي الظهر ؟
فقيل بسقوط الظهر عمن صلى العيد .
قال عطاء : ” لم يزد عليهما حتى صلى العصر” ظاهره أنه لم يصل الظهر .
قال الشوكاني : وفيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة ، لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر ، وإليه ذهب عطاء ، حكى ذلك عنه في البحر والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة الأصل ، وأنت خبير بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة ، هو صلاة الجمعة ، فإيجاب صلاة الظهر على من تركها أي الجمعة لعذر أو لغير عذر ، محتاج إلى دليل ، و لا دليل يصلح للتمسك على ذلك فيما اعلم . اهـ
فظاهر حديث ابن الزبير على أنه رخص لهم في الجمعة ، ولم يأمرهم بصلاة الظهر ، لأن الجمعة أصل والظهر بدل ، فإذا سقط وجوب الأصل مع إمكان أدائه سقط البدل .
وقال الشيخ الصنعاني في سبل السلام (2/113) : قلت : لا يخفى أن عطاء أخبر أنه لم يخرج ابن الزبير لصلاة الجمعة ، وليس ذلك بنص قاطع أنه لم يصل الظهر في منزله ، فالجزم غير صحيح ، لاحتمال أنه صلى الظهر في منزله ، بل في قول عطاء أنهم “صلوا وحدانا” أي : الظهر ، ما يشعر بأنه لا قائل بسقوطه ، إذ لا حاجة أن يذكر عطاء أنهم صلوا النافلة وحدانا فلا يبقى إلا أنهم صلوا الظهر وحدانا .
ولا يقال : إن مراده صلوا الجمعة وحدانا ، فإنها لا تصح إلا في جماعة إجماعا.
ثم القول بأن الأصل في يوم الجمعة صلاة الجمعة ، والظهر بدل ، قول مرجوح ، بل الظهر هو الفرض الأصلي المفروض ليلة الإسراء ، والجمعة متأخر فرضها ، ثم إذا فاتت وجب الظهر إجماعا ، فهي البدل عنه .
وللشافعي مذهب آخر ثان في حكم صلاة العيدين ، حيث ذهب لإسقاط الجمعة في حق أهل العوالي والبوادي خاصة دون غيرهم ، وحجته في ذلك حديث عثمان الذي رواه مالك في الموطأ وفيه : أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إذن لأهل العالية بالانصراف ، وعدم شهود الجمعة إن شاءوا ، فهذا في حقهم دون غيرهم.