كان النبي ﷺ يأمر بكتابة القرآن الكريم الذي ينزل عليه، واشتهر من كتاب الوحي زيد بت ثابت(1)، وانتقل الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى جوار ربه والقرآن كله مكتوب، لكنه غير مجموع في موضع واحد وكان محفوظا في صدور الرجال، ولعل النبي عليه الصلاة والسلام لم يقم بجمعه في صحف ولم ينسخه في كتاب جامع؛ لقصر المدة بين آخر ما نزل عليه من القرآن وانتقاله إلى جوار ربه، ولأن ذلك لم يكن مناسبا مع استمرار نزول الوحي، فالقرآن الكريم لم يكتمل بعد، ومن المعروف لدى الجميع أن الترتيب الذي أراده الله تعالى ليس على نحو الطريقة التي أنزل عليها، فسورة البقرة نزلت متأخرة وهي في ترتيب القرآن الكريم متقدمة(2) .
الجمع الأول للقرآن في عهد أبي بكر الصديق
وفي عهد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه تجلت ضرورة جمع القرآن الكريم؛ بسبب حروب الردة وما حدث من استشهاد الكثير من الصحابة وحفظة القرآن في معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب(3)، فقال عمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما : ” إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن…”(4)، فأرسل أبو بكر الصديق إلى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهما، فلما حضر قال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ” إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه”(5).
يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: ” فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب(6) واللخاف(7) وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: ﴿لَقَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولࣱ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِیزٌ عَلَیۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِیصٌ عَلَیۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ﴾ [التوبة: 128]، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر”(8) .
وفي عهد سيدنا عمر رضي الله عنه تابع بنفسه العمل لجمع القرآن الكريم، وأمر بوضع الصحف عند حفصة؛ لأن سيدنا عمر رضي الله عنه جعلها وصية على ما ترك بعد وفاته(9).
الجمع الثاني وتوحيد المصاحف في عهد عثمان بن عفان
وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه اتسعت نطاق الفتوحات الإسلامية وانتشر الصحابة رضي الله عنهم في الأمصار يعلمون الناس كتاب ربهم وشرائع الدين الحنيف، وكان حذيفة بن اليمان يغزو مع جيش في أرمينية وأذربيجان، فلاحظ اختلاف الناس في قراءة القرآن الكريم ؛ لقرب عهدهم بالإسلام ، فأخبر الخليفة عثمان رضي الله عنه وطلب إليه أن يجمع القرآن الكريم ويدون في مصاحف يرسل بها إلى الأمصار، ونستمع لهذه الرواية الصحيحة مفصلة من صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى: عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: “يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى”! فأرسل عثمان رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها: “أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك”، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان- رضي الله عنه- للرهط القرشيين الثلاثة: “إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم” ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان رضي الله عنه الصحف إلى حفصة رضي الله عنها، ثم أرسل الخليفة عثمان رضي الله عنه إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق” (10) .
الفوائد المستخلصة من مسألة جمع القرآن الكريم
أولاً: السبب الحامل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه على جمع القرآن الكريم هو: خشية ضياع شيء من القرآن الكريم عندما استحر القتل في معركة اليمامة. أما السبب الحامل لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فهو الاختلاف في قراءة القرآن الكريم، فخشي من أن يقرأ كتاب الله على غير ما أنزل.
ثانياً: إن الجمع الأول للقرآن الكريم في عهد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان جمعا للصحف المتفرقة عند الصحابة في مصحف واحد. أما الجمع الثاني للقرآن الكريم في عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكان نسخا لما جمع في عهد أبي بكر رضي الله عنهما.
ثالثاً: تم التركيز على اختيار سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه لمهمة جمع القرآن الكريم، ويفسر ابن حجر سبب ذلك بقوله: ” ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك: كونه شابا فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلا فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فيكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة.” (11) .