من بركات الله تعالى على أمة محمد – ﷺ- سورة البقرة، فهي من أعظم سور القرآن الكريم، وأطول سورة في القرآن، وهي كما قال العلماء: فسطاط القرآن؛ وذلك لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها.
وسورة البقرة هي السورة الثانية في القرآن بعد الفاتحة في ترتيب المصحف وليس في النزول، وهي من السور التي نزلت بالمدينة المنورة، وفيها آخر ما نزل من القرآن الكريم وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، نزلت يوم النحر في حجة الوداع بوادي منى.
وتمثل سورة البقرة بما حوته من تعاليم منهجا للمسلم في حياته، فقد اشتملت على كثير من الأحكام في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلم والحرب والزواج والطلاق والمداينات وغيرها من أحكام الدين. فمن عرف تلك الأحكام؛ فقد عرف غالب أمور الدين.
وقد تناولت السورة في بدايتها الحديث بعض صفات المؤمنين، والكافرين والمنافقين، وبينت حقيقة الإيمان والكفر والنفاق.
كما تكلمت السورة بإسهاب عن بني إسرائيل وغدرهم وخيانتهم، ونبته الأمة إلى خبثهم والحذر منهم، بدءا من عصر الرسول ﷺ حيث كانوا يعيشون معه، إلى أن يقوم الناس لرب العالمين.
وقد تناسب نزول السورة في المدينة؛ لأن الرسول ﷺ كان قد بدأ في بناء الدولة، فنزلت سورة البقرة تبين المنهج الرباني الذي يجب أن تقوم عليه دولة الإسلام، وكيفية تنظيم علاقة المسلمين بربهم، وعلاقة المسلمين فيما بينهم، وعلاقة المسلمين بغيرهم من أهل الكتاب والأمم الأخرى.
كما اشتملت السورة على بعض قصص القرآن، لما فيها من تأثير عن النفس البشرية، وكيفية الاستفادة من قصص السابقين، ولترشد الأمة إلى قراءة تاريخ السابقين، وكيف يستفيدون منه في حياتهم العملية والإيمانية.
كما اهتمت السورة بقواعد بناء المجتمع المسلم المبني على الفضيلة والأخلاق، القائم على العدل والإحسان، وترك الظلم وكل ما يهدم المجتمع في أخلاقه ومعاملاته، فتناولت تحريم الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وأرشدتهم على الإشهاد في الأموال.
كما وضعت سورة البقرة أسس بناء البيت المسلم، وتنظيم العلاقة بين الزوجين، وأن الحياة قائمة على رعاية حدود الله تعالى، وكيفية بناء البيت المسلم على أساس من تقوى الله ورضوانه، بل وأوضحت كيفية إنهاء الحياة الزوجية إن استحالة العشرة على أسس التقوى والفضل بين الزوجين.
وأوضحت السورة أهمية الأخلاق التي يقوم عليها المجتمع المسلم من الأمانة وتحريم كتمان الشهادة، ثم ختمت ببيان أهمية الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، والاستسلام له، وضرورة العناية بأركان الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ثم الطلب من الله برفع الأغلال عليهم، والانتصار على الكافرين.
والناظر إلى سورة البقرة يجدها مثل القلادة المتلألئة، متماسكة مترابطة، كسلسلة من النجوم في سماء المؤمنين تنير لهم طريقهم في تعاملهم مع خالقهم ومع الناس.
وقد اشتملت سورة البقرة على عدد من القواعد التي لا غنى للمسلمين أفرادا ومجتمعات عنها، ومن أهمها:
لا يليق بالمسلم العاقل أن يدعو الناس إلى البر والفضيلة ومكارم الأخلاق وينسى نفسه ويهملها في هذا الجانب: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
أن غير المسلمين لن يرضوا عن المسلمين حتى يتركوا الإسلام ويتبعوا دينهم. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [البقرة: 120]
أن الولاية الشرعية يجب أن تكون لأهل الإيمان والعدل، لا لأهل الكفر والظلم.
أن التقليد الأعمى باطل، يؤدي بصاحبه إلى الجهالة والعمى.
أن الإسلام دين اليسر، وأن التكاليف الشرعية في مقدور كل الناس.
من يسر الإسلام أنه أباح المحرمات عند الاضطرار، فالضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها.
أن الله بنى الدنيا على قانون السببية، فعلى المسلم العناية بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى.
أن للمسلم أن يطلب حظه من الدنيا ، كما يؤدي واجبه نحو الآخرة.
أن كل إنسان يجازى بعمله لا بعمل غيره، فلا يسأل الإنسان إلا عن نفسه.
أن الدين مبني على الحكمة واحترام العقل.