كيف تجسّد حب الصحابة للنبي في أروع صوره؟ يستعرض هذا المقال نماذج خالدة من الشوق والفداء، ويجيب على سؤال: لماذا بلغ حبهم له درجة فاقت حبهم لأنفسهم وأهليهم، وما هي ثمرة هذا الحب في الدنيا والآخرة.

كانت الدنيا صحراء قاحلة ينتشر فيها الظلم والعدوان والقتل والدمار ،حتى أرسل الله تعالى رحمته للعالمين محمدا ؛ هدى الله تعالى به من الضلالة وعلم به من الجهالة فتح الله تعالى به أعينا عميا وآذانا صما. وجد الصحابة في النبي النور الذي يهديهم والروح الذي يروي عطش نفوسهم والقلب الكبير الذي يحنو عليهم ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128] فأحبوه من كل قلوبهم، ولم يكن هذا الحب عاطفة تذهب وتأتي بل شيء راسخ في القلب لا تزيده الأيام إلا قوة ولا الأحداث إلا متانة، وقد سجلوا في كتاب الحب أسمى العجائب التي لم يسبقهم إليها أحد حتى حق لنا أن نسميها آيات الحب.

دوافع حب الصحابة للنبي

وكيف لا يكون حبهم كذلك بعدما رأوا من جميل صفاته وكريم أخلاقه، وكيف لا يكون حبهم كذلك وقد أدركوا ما أصابهم من الخير باتباعهم له، وكيف لا يكون حبهم كذلك وقد علموا أن حبه يجب أن يكون أكبر من كل حب، وأن ذلك جزء من حقيقة الإيمان ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24].

وكيف يكتمل إيمان عبد لا يملأ قلبه حب النبي وقد علم بما كان بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والنبي صلوات الله وسلامه عليه حين أخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ” لا، والذي نفسي بيده؛ حتى أكون أحب إليك من نفسك” فقال له عمر: فإنه الآن – والله – لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبي :” الآن يا عمر “.

حب الإنسان لنفسه أحد الطباع البشرية وجاء الشرع بما يجعل من حب الإنسان لنفسه سبيلا للتقرب إلى الله تعالى ويجنبه شرور الأنانية؛ فأنت تحب لنفسك الخير والشرع لا يأمرك إلا بما فيه خير لنفسك في الدنيا والآخرة ، وكم من إنسان ذهب برجليه للمهالك لأنه أطاع نفسه التي يحبها وعصى النبي وهو الرحيم به الشفيق عليه ، إذا فحب النبي ينبغي أن يكون أحب إلينا من نفوسنا لأنه لا يدلنا إلا على ما فيه بقاء هذه النفوس وسعادتها في الدنيا والآخرة.

وكيف لا يكون حب المؤمن للنبي وهو الشفيع يوم القيامة حين يعاقب الله تعالى المذنبين على أخطائهم التي وقعوا فيها بسبب حبهم لأنفسهم.

شوق اللقاء في الجنة: حب يتجاوز الحياة

ملأ هذا الحب قلوبهم حتى ما يطيقون صبرا على فراقه وحتى أن أحدهم فكر في يوم القيامة حين ينصرف الناس إلى منازلهم بفضل الله تعالى ورحمته أو بعدله جل جلاله ، فكر في نفسه إذا دخل الجنة سيكون في منزلة بلا شك أقل من منزلة النبي ، وحين ذلك سيعمل الشوق عمله لكن ما من سبيل إلى لقاء النبي ولكل ساكن من سكان الجنة مقام معلوم ، أفضى بمشاعره إلى النبي وقال: إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي [وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي]، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي ‌الْبَيْتِ ‌فَأَذْكُرُكَ ‌فَمَا ‌أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، وَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَأَنِّي إِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ.

فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الْآيَةِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] ».

الفداء بالنفس والمال: أبو بكر نموذجًا

ملأ هذا الحب قلوبهم حتى قدموا أموالهم وأرواحهم فداء له بطيب نفس، ومن شواهد ذلك في رحلة الهجرة خَرَجَ رَسُولُ اللهِ لِيَنْطَلِقَ إِلَى الْغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاعَةً خَلْفَهُ حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ، فَقَالَ: “يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا لَكَ تَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْ وَسَاعَةً خَلْفِي؟ “. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَذَكُرُ الطَّلَبَ، فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذَكَرُ الرَّصْدَ، فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ: “يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟ “. قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا كَانَتْ لِتَكُونَ مِنْ مُلِمَّةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِكَ دُونِي، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، فَدَخَلَ، وَاسْتَبْرَأَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي أَعْلَاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئِ الْحُجْرَةَ، فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ الْحُجْرَةَ، فَدَخَلَ وَاسْتَبْرَأَ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَزَلَ .

ثمرة الحب: “أنت مع من أحببت”

هذا الحب العميق يرفع أصحابه منازل عالية وإن كانت أعمالهم قليلة، عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ : (مَا أَعْدَدْتَ لَهَا).

فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي ‌أُحِبُّ ‌اللَّهَ ‌وَرَسُولَهُ، قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).

«قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ : “أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ“، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ وأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ».

لقد تفكر الرجل في قائمة أعماله فلم يجد منها ما يصلح أن يرجو بسببه دخول الجنة، إنه يحافظ على الفرائض ولكنه مقل من النوافل، لم يجد في أعماله ما يصلح أن يقال غير محبة الله ورسوله ، وكانت هذه الجملة المعبرة عن صدقه في الحب هي التي تثقل ميزانه وميزان من يحب الله ورسوله، والحق يقتضينا أن نقف وقفة لله تعالى نحدد قوائم من نحب لأنهم حيثما وقفوا يوم القيامة سنقف معهم فإذا كنت لا ترضى أن تكون معهم في الآخرة فتخلص من حبهم الآن.

حبٌ يحمي من اللعنة

هذا الحب يطهر أصحابه ويحميهم من الدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله تعالى «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ : (‌لَا ‌تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).

فالرجل مع شربه الخمر وتكرار وقوع ذلك منه إلا أنه صادق في حبه لله ورسوله حتى أقسم النبي على ذلك.

قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: «لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه، وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ..ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه شيء حتى يسلب منه ذلك، نسأل الله العفو والعافية.»

ويمكن أن نقول أن حب النبي يتنازع في قلب المحب مع نزغات الشياطين فيغلب الحب مرة وتنتصر نزغة الشيطان مرة، وإنا لنرجو من الله أن لا يخذل عبدا في قلبه محبة نبيه .

حب لا ينقطع: شهادة للأجيال القادمة

هذا الحب موصول في الأمة الإسلامية من رأى النبي صلى الله علي وسلم ومن لم يره قال رسول الله :” مِن أشد أمتي لي حبًّا ناس يكونون بعدي يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله “

إن الحب أحد المداخل شديدة التأثير في تكوين الشخصية وتحقيق الاقتداء والامتثال للأمر مهما بدا غريبا أو صعبا على النفس.