هناك العديد من الأحداث التي مرت على الأمة الإسلامية وشكلت تحولا مفصليًا في التاريخ الإسلامي، وفي مقدمة هذه الأحداث الهجرة النبوية التي تجسدت بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة المنورة، باعتبارها بوابة الدخول إلى مرحلة نشر الدعوة وقوة الإسلام. لكن الهجرة النبوية.. لماذا؟ كيف؟ ومتى؟ متى كانت الهجرة وكيف كانت ولماذا تقرر انتقال النبي محمد من مكان إلى مكان آخر في مسار إبلاغ رسالته إلى العالمين؟

لا شك أن للهجرة النبوية العديد من الأسباب والأهداف وما تخللها من أحداث في التاريخ الإسلامي، يعد منعرجا لمسار الرسالة التي حملها نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام وبلغها وتحمل في سبيلها كل الآلام والمخاطر. والمقصود بـ “الهجرة النبوية” هو عملية انتقال النبي محمد من مكة إلى المدينة المنورة. هذا الحدث – ليس كما يتصوره بعض الناس – مجرد رحلة سفر من مكان إلى آخر، بل كان حدثًا جللاً تجسدت حوله الكثير من المعجزات الربانية التي أوجدها عز وجل لحماية نبيه محمد .

أسباب الهجرة النبوية

السؤال الذي يُطرح دائمًا لفهم دوافع الهجرة النبوية هو: لماذا هاجر الرسول من مكة بلده ومسقط رأسه وسط أهله وذويه إلى مكان غير معلوم؟ ما هي أسباب ودوافع هذه الهجرة أو هذا الانتقال؟ ليس من السهل أن نحصر أسباب هجرة الرسول في سبب واحد، إذ أن الهجرة لها أوجه مختلفة، فهي لها أسباب تتعلق بالاضطهاد الذي تعرض له المسلمون في مكة، وأسباب أخرى لها علاقة بنشر الدعوة خارج مكة ذاتها.

ومع ذلك، يمكن أن نوجز أهم الأسباب التي دعت إلى هجرة الرسول والمسلمين من مكة إلى المدينة المنورة:

اضطهاد قريش للمسلمين في مكة

 بعدما بدأ عدد المسلمين في مكة وما حولها في الازدياد، بدأت قريش تشعر بأن الميزان سوف يميل لصالح الإسلام، وهذا بالطبع ضد العديد من مصالحها الدينية والاقتصادية والاجتماعية، لأن الإسلام جاء ليهدم أسس النظام الاجتماعي القائم على العداوة والبغضاء والظلم، ويساوي بين السادة والعبيد في الحقوق والواجبات، وما كان ذلك ليرضي سادة قريش. لذا كلما ازداد عدد الأفراد الذين يدخلون يوميًا في الإسلام، اشتد إيذاء الكفار لهم. وقد وصل الإيذاء لدرجة الاعتداء على رسول الله وصحابته حتى يردوه ويردوهم عن الدعوة والإيمان بالله وحده لا شريك له. وليس أشد مما حدث في يوم الطائف عندما ذهب الرسول ليدعو أهلها إلى الإسلام فرفضوا ورأى منهم أشد أنواع الرفض والاعتداء.

نشر الدعوة الإسلامية خارج مكة

الإسلام لم ينزل على رسول الله لكي ينذر أمة واحدة، بل أنزل عليه ليكون رسالة لكل الأمم ولكل البلدان ألا تعبد إلا الله وحده ولا تشرك به شيئًا. لذا كان لابد للإسلام أن يبني لنفسه جسورًا ينطلق من خلالها إلى العالم كله، وكانت المدينة من أهم المراكز التي يمكن أن تكون هي المركز الأساسي لنشر الدعوة. وقد بايع الأنصار في المدينة رسول الله قبل دخوله، وفيها وجد منهم الطاعة وحب الإسلام. فكانت الهجرة إلى المدينة أمرًا ضروريًا حتى يجمع المسلمون قوتهم ويبدأوا في نشرها إلى العالم كله.

كيف هاجر الرسول من مكة إلى المدينة ؟

لم يكن قرار الهجرة النبوية مجرد قرار انفرادي حماسي غير مدروس، ولم يكن قرارًا يقع تحت طائلة غضب من فئة ما، أو رغبة في تغيير وضع ما. كما لم يكن يتحكم في قرار الهجرة عنصر واحد، وإنما ساهمت العديد من العناصر في صناعة قرار الهجرة الذي شكل نوعًا من القرار الاستراتيجي في عصرنا الحالي. فلم تكن الهجرة نفسها هي المغزى والهدف، وإنما تبين أن عدة ظروف وملابسات وأهداف هي التي تحكمت في الإعداد لهذا القرار الهام في تاريخ الإسلام، ومن ثم التخطيط لاتخاذه في الزمان والمكان المناسبين.

ولأن محور اتخاذ قرار الهجرة لم يكن شخصًا عاديًا، بل كان خير البشر أجمعين نبي الله ورسوله إلى العالمين، صادق أمين وقائد عظيم ومعلم وقدوة وصاحب معجزات وإلهامات.. لأن المسؤول الأول عن صناعة القرار واتخاذه هو هذا الرجل، فقد كانت العملية أشبه ما تكون بمركز عمليات حربية تحت القيادة العامة لنبيّ الرسالة البشرية المتكاملة دينيًا وحياتيًا، الذي رسم الخطط وحدد الخرائط ووضع المسارات وأعد العدة التي شكلت الخطوات الرئيسية لعملية الهجرة:

  1. السرية: كان قرار الهجرة قرارًا سريًا إلى أقصى حد، ودقيقًا إلى أبعد مدى.
  2. اختيار الوقت المناسب للهجرة: بعد تحليل البيئة الداخلية.
  3. المشاركة والتشاور في وضع الخطة: لم ينفرد الرسول باتخاذ قرار الهجرة بل أشرك الجميع في صناعة القرار واتخاذه.
  4. تجهيز المكان المراد الهجرة إليه (المدينة المنورة): من خلال تحليل البيئة الخارجية من كل الجوانب: دينيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
  5. إعداد وسائل ومتطلبات الهجرة: من موارد بشرية ومادية ومعنوية.
  6. تحديد آليات الهجرة: في الخروج من مكة إلى المدينة، وما أحاطها من ظروف المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان.
  7. تحديد الهدف الأسمى للهجرة: إذ لم يقرر الرسول الهجرة بين ليلة وضحاها، وإنما كانت هناك محاولات للإصلاح والتكيف مع الوضع في مكة.
  8. رسم خارطة طريق الهجرة: من خلال دراسة مسبقة شملت كل النواحي لعملية انتقال سلس دون مخاطر أو مضاعفات.
  9. توزيع الأدوار على الصحابة والتابعين: وفق قاعدة الشخص المناسب في المكان المناسب (مثل: عبد الله بن أبي بكر في الاستطلاع وتقصي الأخبار، عامر بن فهيرة للتمويه ومحو الآثار، أسماء بنت أبي بكر للمؤونة والإطعام، عبد الله بن أريقط الليثي وهو غير مسلم كدليل طريق..).
  10. في مسار عملية الهجرة كما في ما قبلها وما بعدها: اتبع الرسول أسلوب الشفافية والواقعية والمرونة والوضوح.. الأمر الذي سهل إلى حد كبير من مهمته وساهم في نجاحها.
الهجرة النبوية
الهجرة النبوية .. رحلة غيرت مسار التاريخ

متى كانت الهجرة النبوية ؟

هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة في اليوم السابع والعشرين من صفر من السنة الثالثة عشر للبعثة، والذي يوافق اليوم الثالث عشر من الشهر التاسع من عام 622 ميلادية. هاجر النبي من مكة المكرمة ليلة الجمعة، ولبث في غار ثور ليلة الجمعة والسبت والأحد، ومن ثمَّ انطلق ليلة الإثنين في الأول من الشهر الثالث من السنة الرابعة عشر من البعثة، الموافق لليوم السادس عشر من الشهر التاسع لعام 622 ميلادية إلى المدينة المنورة. وصل إلى قباء في يوم الإثنين، الثامن من الشهر الثالث للعام الرابع عشر من البعثة، الموافق للثالث والعشرين من الشهر التاسع لعام 622 ميلادية، ووصل المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول.

ويعتبر مسار الهجرة النبوية هو المسار الذي سلكه النبي محمد وصحبه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تجنبًا لأذى زعماء قريش وكيدهم. بدأ من دار السيدة خديجة زوجة الرسول وفترة الاختباء في غار ثور ثلاثة أيام حتى منطقة قباء بالمدينة المنورة آخر محطات الركب النبوي. يقدّر طريق الهجرة النبوية بـ 380 كيلومترًا قطعها الركب النبوي في ثمانية أيام. ذكرت الروايات التي وصفت المعالم المكانية لطريق الهجرة النبوية 29 معلمًا متفق عليها وتختلف في تعدادها من راوي إلى آخر، ووردت في كتب ابن إسحاق وابن سعد وابن خرداذبة والطبري وابن حبان والأزهري والإدريسي والحاكم وابن حزم وابن عبد البر والبكري وابن الأثير، والحموي وابن منظور والنويري وابن كثير والذهبي والعصامي والأنصاري والبلادي.

بعد أن رسم النبي وصحابته مسير الهجرة للأيام الثلاثة الأولى وبعد أن جهّز أبو بكر الصديق راحلتين منذ أكثر من 4 أشهر من اليوم الأول للهجرة، بدأ طريق الهجرة النبوية من منزل السيدة خديجة والحزورة، ثم منزل أبي بكر الصديق وغار ثور خلال الأيام الثلاثة الأولى، إلى غاية اليوم الثامن للهجرة وهو يوم الإثنين الموافق للثامن من ربيع الأول في السنة الأولى للهجرة. بدأ من الجثجاثة وانتهى بالمبيت في منزل أبي أيوب الأنصاري بالمدينة المنورة. بعد اجتياز جبل حمراء الأسد، ثم طريق الظبي الموصل إلى حي العصبة ثم ديار بني أنيف ثم إلى قباء وهي المحطة النهائية في مسار الهجرة النبوية.