أكثر الناس يقرأون القرآن ولا يدركون معناه، ويدرسون الشريعة ويخضعون لفقهائها ويقلدونهم دون فهم أو دراية، وكل الأحكام المقررة ثابتة لديهم على أنها وجه آخر للقرآن، وأصل ثابت للإيمان لا يمكن تغييره. الناس يختلفون في حكم حجاب المرأة في الإسلام، فمنهم من يرى وجوبه، ومنهم من يرى عدم وجوبه، ومنهم من يراه فضيلة تجدر بصاحبة الدين وربيبة البيت المسلم، ومنهم من يعده وهماً كبيراً يتوهمه الجهلة ويعتقد به الجامدون.
يقول الغزالي: “إنَّ كل تديُّن يجافي العلم، ويخاصم الفكر، ويرفض عقد صلحٍ شريفٍ مع الحياة؛ هو تديُّن فقد صلاحيته للبقاء!”.
ونحن بعيداً عن تقرير حكمه الشرعي في الإسلام نتساءل: كم من الناس فَكَّرَ أن يستفتي القرآن ويستنبئ منه عن حكمه الصحيح ليشبع نهمته ويشفي غلته؟
يقول الله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31).
ويقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب:59)
أما الآية الأولى، وهي أمر جامع مانع لكافة نساء المؤمنين بوجوب غض البصر والتحشم والالتزام بعدم إظهار الزينة إلا ما ظهر منها، وألا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، لأن ذلك أدعى للحفاظ عليهن من الفتن وبعثرة الإثارة والتعرض لما يؤذي المجتمع ويسيئ إليه.
أما الآية الثانية، وهي توجيه من الله لرسوله ﷺ أن يأمر نساءه ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، لماذا؟
{ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
وتلك هي العلة من إدناء الجلالبيب عليهن !! والأمر هنا للوجوب، ولكن في التزييل على الآية الكريمة نكتة خفيت على الكثير من المفسرين، وهي قوله سبحانه: { ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، ثم: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
لا يمكن الخلوص إلى المعنى المراد إلا بفهم عميق للقرآن، ورؤية شاملة لمقاصدة، وقدرة على الربط الدقيق بين الآثار التي ربما تبدي بعض التناقضات في ظاهرها.
{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}
فمثلا، كلنا نحفظ قول النبي ﷺ:”إن الله لا ينظر إلى صوركم وألوانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
كذلك قوله ﷺ: “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.
من بين هذه السطور أيضاً إشارة خفية لعالمين مختلفين، وهما محكوما بقانون واحد في عالم الجسد، عالم الظاهر، المتعلق بالشخوص والأشكال والألوان، والمحكوم بقانون الجسد، الذي عليه مدار المعاملات في هذه الدنيا، وعالم القلب، مملكة الإنسان، عالم الحقيقة اللانهائي، ومن بين هذه الحروف ينبجث تيار من الإعجاز البلاغي ، والبيان المذهل، يعلنها صريحة أن الحقيقة مكنونة في القلب، ولا أثر للجسد في كثير ولا قليل عليها.
والقارئ الفطن المتمعن في “الحديث الشريف” يعلم يقيناً أن قصة الجسد غير داخلة في الأمر، والأمر كله متعلق بالقلب الذي لا يمكن محاسبة صاحبه إلا بما كان ممهورا بتوقيعه، ومشفوعا بإقراره:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}
صحيح أن سياق الآية الكريمة يخص أمر التبني وحكمه الشرعي، لكن كما يقول العلماء: “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، وأن “الجناح” أي المؤاخذة بالذنب لا تكون إلا مع تعمد الخطأ، وقصد سلوك سبيل يخالف سبيل الحق.
عدم الخضوع للأمر الإلهي، وركوب مطية الاستعلاء والتأبي..
تجاهل أمر الله بعدم الالتزام بأمره والخضوع لسلطانه..
وبالجمع الواعي بين الآيات والأحاديث، نرى أن تَحَشُمَ المرأةِ واجبٌ، وأن التزامها بما تأمر به الشريعة من خضوع وخشوع لمنطق الحق أمرٌ مُحَتَّمٌ لا يصلح أمر الدين إلا به، ولا يستقيم أمر التدين بمجافاته.
الرجل والمرأة على السواء في الآخرة أمرهما موكول إلى صدقهما مع الله، والإخلاص لوجهه الكريم، والتماس رحمته ومغفرته بكل قول وعمل، وكل ما تعلق بأمر الشكل والصورة في الدنيا غير منظور إليه، ولا يُعْبَأُ به !!
{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
مرد الأمر إلى القلب !!
ماذا اعتقدَ، وكيف أخلصَ، وكيف كان تجرده لله؟
الجسد الذي أكلته الأرص فذاب في ترابها لا يُنْظَر إليه، ولا يعبأ به، وكل ما وقع منه وارتبط به فذاهب إلى العدم معه، ولكن ينظر إلى القلب الذي نبض فيه، والإخلاص الذي كان يتنفس من هوائه !!
{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
أجل، {ذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
{ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، بعد الإدناء من الجلابيب على النساء لعلة كان الحكم الشرعي لأجلها لا لغيرها:
{ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}
لكي يكون في احتشامها برهان في العيون المتذئبة على الأعراض على أنها عفيفة تريد الصون، شريفة تريد الطهر، دَيِّنَةٌ تنشد الكرامة، فلا يمسها أحد بسوء، ولا يقربها فاحش بجرم. والاحتشام هو السبيل الأوحد لتحقيق ذلك لها في الدنيا وبين الناس.
كل ذلك لأجل الحفاظ عليها في الدنيا لا غير، فإن خطت بطهرها وصدقها وتجردها وأخلاقها إلى الله فوصلت، فلا نظر إلى ماسلف من أمر جسدها، ولا تبعة عليها فيما يتعلق به، وذلك ما يتسق بداهة مع قول الرسول الكريم ﷺ:”إن الله لا ينظر إلى صوركم وألونكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم..”.
أما إن سلكت سبيلاً غير ذلك، وتركت الحجاب والاحتشام، فأمرها بين احتمالين:
الاحتمال الأول: إما أن يكون تبذلها وكشف زينتها أمر يخضع لسلطان البيئة التي نشأت فيها، وهي لا تقصد مخالفة الشرع ولا الخروج على سلطانه، فيأتيك الحكم في زيل الآية: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}، أي في الآخرة مغفور لها، لأنها لم تكن تقصد بفعلتها الخروج على أمر الشريعة أو مخالفة أمر الدين.
الاحتمال الثاني: أما إن كان في نبذ حجابها وتبذلها سوء نية وقلة حياء مع الله ومحادة لشرعه، ورغبة في الجموح وركوب متن الهوى والتأبي على أمر السماء فهي عاصية لأمر الله وخارجة عليه ومستحقة لعقابه، والأمر موكل فيها إليه سبحانه، إن شاء غفر لها وإن شاء آخذها.
لصوص الأعراض لهم قرون استشعار تستجيب للغرائز المنفلتة، وتشم الشهوات المفضوحة، وتحس الرغبات المكبوتة فيتجهون إليها بكل ما فيهم من شيطنة وفجور، محاولين إثارتها، وجذبها، ثم أسر أصحابها في زنازين المعصية والزلل ليكونوا رفقاء لهم في النار.
وحجاب المرأة له دلالة تختلف من بيئة لبيئة، ومن مجتمع لمجتمع، ثم إنه أيضا تختلف من امرأة لامرأة.
هناك بيئات درجت على السفور، وتعاملت مع مسألة الحجاب تبعا لمقصدها والغاية التي شرعت لأجلها، فهي تعتبر رداء المرأة الذي لا يتخطى الحد في السفور والتبرج أمر ثم لا يعقبه سوء ولا يستتبعه أذى، رداء مقبولا لا شيء فيه، كما أن المرأة ذاتها قد تتحشم وتستتر في ثيابها وهيأتها، ولكنها تعرف مواطن الإثارة من جسدها، ومواضع لفت النظر من حركاتها، فتكون قد احتجبت بثيابها، ولكنها تعرت بفعالها وأخلاقها.
إذن، فالحجاب لا يصنعه الحائك بقماشه، ولا يخلقه الشيخ بموعظته، ولا يحفظه المجتمع بقانونه، ولكن تصنعه التربية بأدبها، ويخلقه الوازع بضميره، ويحفظه الخلق بشرفه.
والحجاب ليس إلا للحفاظ على المرأة أولا، بعدم إطماع أصحاب القلوب المريضة فيها، وإظهارها في مظهر التصون والأدب، ثم بعد ذلك هو حفظ للمجتمع من بعثرة الشهوات وإثارتها وإلحاق المتاعب والأزمات في أبنائه. ليتنا نحاول أن نعرف قيمة العقل في فهم القرآن، وندرك مغبة تعطيله وتجميده لأجل ما ورثناه دون فهم أو تفكر أو تدبر {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها}.
ليتنا نحاول الربط الدقيق بين ما تقصد إليه الآيات، وما تهدف إليه الشريعة الغراء، وما يريده الدين الحنيف في ظل عقل متفتح وقلب سليم ونية خالصة لله رب العالمين.