ما يسمى بحج البدل مما كثر في هذا الزمان، حتى غدى مهنة وعملا منظما، تتبناه جهات خيرية، وجهات أخرى تتخذه وسيلة للتكسب، مما يقتضي الوقوف معه، والنظر في مشروعيته، من خلال النقاط التالية:
هل يصح حج البدل عن الغير مطلقا؟ أو لا يصح إلا عن الميت فقط؟ وإن كان يصح عن الحي؟ فهل ذلك خاص بالعاجز في بدنه؟ أو يشمل غير العاجز أيضا؟ وهل يشترط للأنابة في الحج اتحاد المكان؟ أو لا يشترط ذلك؟ فيصح للمصري أو للمغربي مثلا أن ينيب أحدا يقيم ببلد أو مكان أقرب إلى مكة منه، كمن يقيم بالمدينة المنورة، أو جدة مثلا؟ إلى غير ذلك مما يتعلق بهذه القضية.
وردت أحاديث تتعلق بأداء الحج عن الغير منها: ما يتعلق بالحي العاجز في بدنه، ومنها ما يتعلق بالميت، ومنها ما هو مطلق.
أولا:ما يتعلق بالحج عن الحي العاجز: قال البخاري (بَابُ الحَجِّ عَمَّنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ) وأورد فيه عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»([1])
ثانيا:ما يتعلق بالحج عن الميت: وفيه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ، جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»([2])
ثالثا: ما هو مطلق غير مقيد بحي عاجز، أو ميت، وفيه حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ، عَنْ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شُبْرُمَةُ» قَالَ: قَرِيبٌ لِي، قَالَ: «هَلْ حَجَجْتَ قَطُّ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَاجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ احْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ»([3])
ففي هذا الحديث لم يبين الرجل حال شبرمة، هل هو حي عاجز عن السعي ببدنه؟ أو هو ميت؟، والنبي ﷺ لم يستفسر منه أيضا عن ذلك، وإنما سأله: هل حج عن نفسه قبل أن يحج عن غيره؟، و” ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال”.
وهنا ينبه على أنه ﷺ لم يستفسر من الخثعمية، كاستفساره من شبرمة، فلم يسألها هل حجت عن نفسها، أولا؟؛ لأنها سألته بعد دفعه – ﷺ – من المزدلفة إلى منى حين كان الفضل رديفه كما جاء في حديث البخاري([4])
وفي ضوء هذه الأحاديث ذكر أهل العلم جملة من المسائل المتعلقة بفقهها فيما يتعلق بحج البدل نجملها فيما يلي:
1. أنه لا يصح حج البدل عن القادر الذي يستطيع الحج ببدنه إن كان الحج واجبا، وإنما يصح حج البدل في ذلك، عن المريض مرضاً لا يرجى برؤه، أو عن العاجز ببدنه عجزا مزمنا، أو عن الميت، وأما الفقير، والمحبوس، ونحو ذلك من الأعذار التي يمكن زوالها فلا يصح منهم الإنابة في الحج إن كان واجبا، كحجة الإسلام، قال ابن حجر في الفتح: “واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب فلا يدخل المريض؛ لأنه يرجى برؤه، ولا المجنون؛ لأنه ترجى إفاقته، ولا المحبوس؛ لأنه يرجى خلاصه، ولا الفقير؛ لأنه يمكن استغناؤه“.([5])
والمعضوب كما قال الإمام النووي رحمه الله: “من كان عاجزاً عن الحج بنفسه عجزاً لا يرجى زواله لكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله“.([6])
2. يصح حج البدل في التطوع على الصحيح؛ لأن باب النفل أوسع من باب الفرض، فمن أدى حجة الإسلام وهو قادر على الحج بنفسه فله أن يستنيب في حج التطوع، قال ابن حجر رحمه الله: “ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي وعن أحمد روايتان“.([7])
وقال الدهلوي الحنفي:” العبادات أنواع: مالية محضة كالزكاة، وبدنية محضة كالصلاة، ومركبة منهما كالحج.
والنيابة تجري في النوع الأول في حالتي الاختيار والضرورة لحصول المقصود بفعل النائب، ولا تجري في النوع الثاني بحال؛ لأن المقصود هو إتعاب النفس، وهو لا يحصل به، ويجري في النوع الثالث عند العجز للمعنى الثاني وهو المشقة بتنقيص المال، ولا تجري عند القدرة لعدم إتعاب النفس، وفي الحج النفل تجوز الإنابة حالة القدرة؛ لأن باب النفل أوسع”. ([8])
3. ليس لأحد أن يحج عن غيره ما لم يكن قد حج عن نفسه؛ لحديث شبرمة السابق. ووجه الدلالة قوله ﷺ فيه: “حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة“، وفي لفظ: “اجعل هذِه عن نفسك ثم حج عن شبرمة“، وثم للترتيب فاقتضى ذلك أن يكون حجه عن الغير بعد حجه عن نفسه.
فإن لم يفعل وحج عن الغير قبل أن يحج عن نفسه، قيل يفسد حجه في رواية عن الإمام أحمد، وقيل يصح حجه عن غيره وهو لأبي حنيفة وهو مروي عن مالك أيضا جاء في التاج والإكليل:” لا يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه فإن فعل أجزأ عنه عند مالك على كراهية منه“([9])، وقيل ينقلب حجه لنفسه صحيحا فيكون له لا عن غيره وهذا للشافعي، ورواية عن أحمد، قال ابن قدامة في المغني: “ومن حج عن غيره، ولم يكن حج عن نفسه، رد ما أخذ، وكانت الحجة عن نفسه وجملة ذلك أنه ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره، فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام. وبهذا قال الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق”.([10])
4. العاجز ببدنه عن الحج -وهو مقتدر ماليا- هل يلزمه أن ينيب غيره ليؤدي عنه فريضة الحج، أو لا يلزمه ذلك؟ مذهب الجمهور على انه يلزمه أن ينيب من يحج عنه لأن الاستطاعة بالمال استطاعة. قال الحجاوي في الزاد: “وَإِنْ أعْجَزَهُ كِبَرٌ، أوْ مَرَضٌ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ؛ لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ يَحُجُّ ويَعَتَمِرُ عَنْهُ “.([11])
5. من مسائل الإنابة في الحج هل يصح أن ينيب المرء من يقيم بغير بلده؟ كمن يقيم بمصر أو بالمغرب، فينيب عنه من يقيم بمكة أو جدة أو المدينة. اختلف العلماء في ذلك فمنهم من أوجب الإنابة من بلد المنيب، أو من حيث وجب عليه الحج، قال البهوتي في الروض المربع: “ويحج النائب من حيث وجبا على الميت؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء“.([12])
وقيل لا يلزم ذلك وإنما تكون الإنابة من أي ميقات، وقيل لا يلزم في ذلك شيء بل لو لم يقدر على الإنابة إلا لمن هو بمكة فله أن ينيبه في الحج عنه، ولو كان هو يقيم بمصر أو بالمغرب أو غير ذلك.([13])
وقد صرح بعض العلماء بأنه إذا لم يتسع ماله إلا لاستنابة من يحج عنه ولو من مكة جاز قال في حاشية الروض: إلا إن ضاق ماله جاز ولو من غير مكانه. انتهى.
6. لو ارتكب النائب محظورا من محظورات الإحرام كقص أظافره أو نتف شعره أو نحو ذلك فالفدية عليه في ماله قال النووي: “ويجب الدم في مال الأجير بلا خلاف“.([14])
7. ونختم هذا المقال والمسائل المتعلقة بحج البدل بقضية الأجر وهل للنائب أجر في حجه؟ أو يقع الأجر كله لمن حج عنه؟ قال ابن حزم رحمه الله: ” عن داود أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد، لأيهما الأجر أللحاج أم للمحجوج عنه؟ فقال سعيد: إن الله تعالى واسع لهما جميعا. قال ابن حزم: صدق سعيد رحمه الله”.([15])
[1] – صحيح البخاري، حديث رقم : (1854).
[2] – صحيح البخاري، حديث رقم: (1852).
[3] – سنن ابن ماجه، حديث رقم : (2903) وصححه الألباني.
[4] – حديث رقم (1458.
[5] – فتح الباري: 4/70.
[6] – فتح المنعم شرح صحيح مسلم: 5/382.
[7] – فتح الباري: 4/66.
[8] – لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح:4/391.
[9] – التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق:4/3.
[10] – المغني: 3/235.
[11] – زاد المستقنع للحجاوي، ص:86.
[12] – الروض المربع للبهوتي، ص: 249.
[13] – المغني: 3/234.
[14] – المجموع للنووي: 7/131.
[15] المحلى لابن حزم: 7/61.