كيف حال قلبك؟
هي تحية تبدو لائقة فقط بمن يشكو من متاعب في هذه المضخة الحيوية المسؤولة عن تنظيم الدورة الدموية. وقد تثير العبارة استغراب من يظن أن قلبه لا يشكو من وهن. بينما الحقيقة أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، ويتوجب على كل مسلم يعي خطورة القلب أن يتفقده كل يوم، ويحرص على تزكيته ووقايته من الشهوات والشبهات.
إن حديث القلب حديث ذو شجون، خاصة بعد أن تركز الاهتمام بشكل ملفت على أعمال الجوارح. ويبدو الخطاب الدعوي اليوم منشغلا بالمزالق الاجتماعية العديدة التي تهدد حياة المسلم المعاصر، وتوشك أن تعصف باليقينيات والثوابت التي درج عليها. وهو بالمناسبة أمر مهم لزيادة الوعي واليقظة بما يُحاك ضد هذه الأمة في الداخل والخارج، لكن هل يمكن تنمية المواقف الإيجابية قبل التأكد من أن القلب يعمل بشكل سليم؟
وكيف يتردد ذكر هذه المضغة في أزيد من مئة وتسعين موضعا من القرآن الكريم، للتأكيد على خطورتها، دون أن تجد اهتماما كافيا في الرسائل الدعوية المبثوثة بشكل يومي، لمعالجة هموم ومشاكل مجتمعنا المعاصر؟
كان أكثر دعائه ﷺ: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”، كما جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها، لكن هذا التقليب الإلهي لا يبدو اليوم أولوية في التحذير من خطورته، وتربية الجيل الناشئ على لزوم الاعتصام بالدعاء من مغبته. كيف لا والقرآن الكريم يكشف أن الزيغ والانحراف يبدأ على المستوى القلبي، قبل أن تظهر آثاره على السلوك!
في الحديث المشهور الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير، يجعل النبي ﷺ صلاح الجسد أو فساده رهنا بالقلب؛ فهو المتحكم في حركة الجوارح، إما بالسعي إلى الطاعة وإما بالانهماك في المعاصي. والمنطق السليم يقتضي أن يكون القلب إذن محور كل جهد إصلاحي، أو مبادرة لإحياء المعاني الإسلامية ومظاهر الدين الحنيف في المجتمع.
ينبهنا القرآن الكريم إلى “التزكية” باعتبارها إحدى مهام النبوة التي اضطلع بأدائها الرسول ﷺ، فيقول تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم } ( الجمعة:2). ومن أبلغ مظاهر التزكية التي أؤتمن عليها تأكيده ﷺ على ارتباط الطاعات، بل وسائر تصرفات المسلم، بمعانيها القلبية، كأنه لا قيمة لحركة الجارحة إن لم يتحقق الانسجام بما استقر في القلب المتعلق بها.
يصلح الإنسان إذن بصلاح قلبه، فتأتي حركة الجوارح لتُجلّي هذا الصلاح في صورة استشعار لحلاوة العبادات، ورضا بالقسمة، وتبصر بما يكتنف تقلبات الحياة وصروف الدهر من دروس و مآلات. وهي العوامل التي تهدئ الروع، وتخفف من ضغوط الحياة، وتسربل نفس المسلم بالطمأنينة، لذا كان تقويم القلب شغلا لا يقل أهمية عن أداء الطاعات المقررة شرعا. يقول مؤلف كتاب (مملكة القلب والأعضاء):” وجب على المؤمن، وقد أدرك سر الربط بين قلبه وجوارحه، أن لا يغفل قط عن تقويم القلب على الوجه المرضي، الذي به تنضبط الجوارح في تصرفاتها، فيسلم من حركة أو سكون تتحول إلى حسرة وندامة يوم القيامة.
نشأ اليوم بيننا جيل من حفاة القلوب. شباب تيسرت له المعرفة الدينية بفضل الثورة التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات، فصار بإمكانه، وبضغطة زر، أن يتلقى عددا هائلا من المواعظ، والدروس، والخطب، والتطبيقات المتنوعة. غير أن ذلك لا يستجيب بالقدر الكافي لما يبحث عنه من معان إيمانية، تهدئ روعه، وتبدد حيرته إزاء ما يتعرض له من تشويش مستمر على توحيده وعقيدته.
إن ما يفتقده أبناؤنا في ظل هجمة شرسة لدعاة الضلال القديم هو النسغ الإيماني الذي يسري في عروقهم، فيجدون لذة العبادات والتكاليف الشرعية. سمّها تربية القلب، أو التربية الإيمانية، أو ما شئت من الأسماء، لكنها تظل مطلبا أساسيا لمجابهة الحيرة، ورسائل التشكيك التي تحرض على ألوهية الإنسان لذاته، وتنصله من أي التزام.
من هو الله، وكيف نحبه؟
وما الغاية من هذا التعب الدنيوي في انتظار نعيم الآخرة أو جحيمها؟
ولماذا لا يتدخل لوقف المآسي والعذابات والمذابح؟
هي عشرات الأسئلة التي تضج بها مواقع الدردشة، وتكشف عن نقص حاد في العبادات القلبية، تلك العبادات التي تبدو غائبة عن درس العقيدة في مناهجنا الدراسية، بينما تكشف السيرة النبوية عن مواقف تعليمية أرشدنا من خلالها النبي الكريم ﷺ إلى أهمية تعليم الإيمان، وسد فجوات الحيرة والتردد منذ الصغر. ففي حديث جندب بن عبد الله قال: كنا مع النبي ونحن فتيان حزاورة -أشداء- فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا.
وتعلم الإيمان بحسب المنهج النبوي لا يقف عند حدود الشرح النظري لقضايا العقيدة، بل يتضمن أيضا تعليم النشء الثناء على الله، وتشرّب الأدعية التي تدرب الصغار على اللجوء إلى الله و طلب الهداية والتوفيق، و الاستعاذة من الشرور و الفتن. وقد كان ﷺ يعلم الحسن وغيره من صبيان المسلمين أدعية تتضمن الجوانب الإيمانية كدعاء القنوت.
بين ضعف الإيمان وكثرة التحديات، يصبح حديث القلب ضرورة ملحة في مبادرات التوجيه الواعي للشباب المسلم. كيف لا والإيمان بالله هو بلسم الروح، وشفاء الصدر، والترياق لأمراض القلق والحيرة والشك والارتياب، كما يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه (دراسات في الإسلام). وكلما حظي هذا الحديث بأولوية في الرسائل الدعوية الموجهة للشباب على مختلف المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، إلا وكان حصنا وجُنة أمام فعاليات الاستقطاب الضال لحفاة القلوب من أبنائنا!