من تأمل كتب التاريخ وسير الصحابة بعد وفاة النبي وجد فيها حقيقة المحبة الإيمانية التي أودعها الله تعالى في تلك النفوس، وإنهم قوم لم  تتغير أحوالهم بعد وفاة الحبيب بل عضوا بنواجذهم على غرسه عليه الصلاة والسلام، واعتنوا بستنه أيما اعتناء، ويتضح مجمل ذلك من خلال ثلاث مجالات:

المجال الأول: تعظيم سنة الرسول والاهتداء بهديه

لما كان الصحابة رضوان الله عليهم في موضع الاقتداء والأسوة لمن بعدهم في تبليغ الدين، ومن ثم حققوا أسمى الاتباع وأروع التعظيم لمكانة النبي وسنته وعبروا عن ذلك قولا وعملا.

يقول عمرو بن العاص للذين جاءوا من بعدهم- أي التابعين لهم-: وما كان أحد أحب إلي من رسول الله ، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه[1]

وكان ابن مسعود رضي الله عنه في مشهد تلاميذه من التابعين, كان إذا حدث عن رسول الله في الأيام تربد وجهه،وقال: وهكذا أو نحوه.[2] إجلالا لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام.

وكانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة، في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين، وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار، قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال ابن عمر: يمنعه قول رسول الله :” لا تمنعوا إماء الله مساجد الله [3]

وهذا التعظيم شيء ملحظ عن عامتهم حتى قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله:” لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار، وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث”[4] تعظيما لشأنه ومراعاة لحرمته وهيبته، وأخبارهم في هذا الباب أكثر من أن تسطر في مثل هذا المقام، إلا أن ما تقدم تكون لنا نِبراساً يضيء لنا أنهم صدقوا الله ما عاهدوه من نصرة رسوله بعد وفاته.

المجال الثاني: عدم التساهل مع ما يعترض سنته

وبتأمل سيرة الصحابة الكرام نجد كيف حافظوا على سنة النبي ، ولم يدخروا وسعا في الإنكار على من يتقدم بين يدي هديه ووقفوا سداً منيعاً في فتح هذا الباب، ولو بأرآء كبار الصحابة المهداة المهديين، وهذا ابن عباس رضي الله عنهما لما جادلوه في متعة الحج، وكان يفتي بوجوب التمتع، فقال له بعضهم: إن أبا بكر وعمر كانا لا يريان ذلك، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول لكم قال رسول الله ، وتقولون: أبو بكر وعمر؟[5]!

وتواترت عن ابن عمر رضي الله عنهما شدة عنايته بهدي النبي في جميع حركاته وسكناته، في كل كبير وصغير، ولا يحاب في ذلك أحدا، وقد كان يوما يحدث عن النبي أنه قال:“لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها” فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن. فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سبه مثله قط وقال: أخبرك عن رسول الله وتقول: والله لنمنعهن”[6] 

ولما سألوه عن متعة الحج فأمر بها فعارضوه بقول عمر، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه، فقال لهم: أمر رسول الله أحق أن يتبع أم أمر عمر؟[7]

ورأى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه رجلا يخذف، فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف وقال: «إنه لا يصاد به صيد ولا ينكى به عدو، ولكنها قد تكسر السن، وتفقأ العين» ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدثك عن رسول الله أنه نهى عن الخذف أو كره الخذف، وأنت تخذف لا أكلمك كذا وكذا[8]

ومن مظاهر التطبيق العملي لهذا الجانب في حياة الصحابة رضي الله عنهم، رجوعهم إلى هدي النبي عند التنازع وترك أرآءهم من أجله، وقد شاهد عبد الله بن حنين حادثة وقعت بين عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، أنهما اختلفا بالأبواء فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلكفوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب، قال: فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن عباس، أسألك كيف كان رسول الله «يغسل رأسه وهو محرم؟» فوضع أبو أيوب رضي الله عنه يده على الثوب فطأطأه، حتى بدا لي رأسه، ثم قال: لإنسان يصب: «اصبب فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر» ثم قال: «هكذا رأيته يفعل» فقال المسور لابن عباس بعد ذلك: لا أماريك أبدا[9]

ومما يدل على تفانٍ عظيم في رجوعهم إلى سنة النبي متى بلغتهم دون أدنى توقف، ما أثر من أخبار عمر بن الخطاب – وغيره من الصحابة كأبى بكر رضي الله عنهم – في هذا المعنى، ومن ذلك أنه قام مرة على المنبر فقال رضي الله عنه:” أذكر الله امرءا سمع من النبي في الجنين شيئا، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: «كنت بين جارتين لي، يعني ضرتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله بغرة» ، فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا[10]

وقال الإمام الشافعي – معلقا على هذا الأثر ومبينا مدى تسليم عمر رضي الله عنه لسنة

النبي -:” يخبر والله أعلم، أن السنة إذا كانت موجودة بأن في

النفس مائة من الإبل فلا يعدو الجنين أن يكون حياً فتكون فيه مائة من الإبل أو ميتا فلا

شيء فيه، فلما أخبر بقضاء رسول الله فيه سلم له ولم يجعل لنفسه إلا اتباعه فيما مضى

حكمه بخلافه وفيما كان رأيا منه لم يبلغه عن رسول الله فيه شيء، فلما بلغه خلاف فعله

صار إلى حكم رسول الله وترك حكم نفسه وكذلك كان في كل أمره

وكذلك يلزم الناس أن يكونوا”[11]

المجال الثالث: شدة التحري والتثبت في الرواية عن النبي

لاستشعار الصحابة رضوان الله عليهم أهمية مسؤولية حفظ سنة النبي وتبليغها، وتبعا لأمره :”بلغوا عني ولو آية”[12]ومقرونا بدعائه :” نضر الله امرءا سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع”[13] ومع استحضارهم لقوله :” من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”[14] ولهذا كله جعلهم يتحرون الدقة في حديثهم عن النبي صلى الله عليه ويتورعون في ذلك أشد الورع صيانة للسنة النبوية، وهذا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه رحل إلى مصر ليتثبت في حديث واحد عند عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه [15] وكذا رحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى الشام ليروي حديثا واحدا عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه [16] ولم يكونوا يحدثون في كل حال إلا في مجالس العلم والإرشاد ونحو ذلك، يقول الإمام الشعبي رحمه الله:” جالست ابن عمر سنة، فما سمعته يحدث عن رسول الله [17] خوفا من أن ينقص أو يزيد في حديث رسول الله ، لأن مظنة الخطأ والخلط غالبا من إكثار الحديث، ومن لم يأمن على نفسه ذلك فالأولى في حقه ألا يستكثر كي لا يدخل تحت الوعيد ” من كذب علي” وقد ثبت توقف كثير من الصحابة عن التحديث، وقد أومأ إلى ذلك زيد بن أرقم رضي الله عنه في كلامه لما قيل له:” حدثنا عن رسول الله؟” فقال:” كبرنا ونسينا والحديث عن رسول الله شديد”[18] وسئل الزبير بن عوام:” لماذا لا نسمعك تحدث عن رسول الله كما يحدث فلان وفلان؟” قال :” أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول : “من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار.”[19]

فهنيئا لهم شدة الاحتياط في تبليغ السنة النبوية والذب عنها، ومن هنا يتقرر للمتأمل أن الصحابة رضوان الله عليهم لهم أسبقية الفضل – بعد الله تعالى – في وضع أصول علم رواية الحديث للمحدثين الذين جاءوا من بعدهم.

وبشير العدوي مخضرم من كبار الثقات جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله ، قال رسول الله ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أُحدثك عن رسول الله ولا تسمع، فقال ابن عباس:”إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله ، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.”[20]

وهكذا سار الصحابة على منهج التحرى والتثبت في النقل عن النبي ذبا عنه وصيانة لسنته، لا لتهمة أو سوء ظن بالثقات وإنما من أجل الاحتياط في النقل.

وهكذا تلقوا السنة النبوية مع كامل الحذر والاهتمام البالغ، وحفظوها من كل مدخل سوء، وبقيت آثار جهودهم الخالدة في الكتب الحديثية، وفي مناهج المحدثين وقواعد وأصول علم الحديث، ولله درهم.

وحاصل الأمر، أن الصحابة رضوان الله عليه ضربوا لنا قدوة حسنة في توقير وإجلال سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الدفاع عنها بكل الوسائل المتاحة في وقتهم، وترجموا أقوالهم بأعمالهم، وحقق الله عز وجل بهم النصرة في الذب عن رسوله عليه الصلاة والسلام، النصرة التى لا نظير لها على مر تاريخ الأنبياء والرسل مع أتباعهم، فأصبحوا معيارا ثابتا لمن جاء بعدهم في المحافظة على السنة النبوية والتثبت في قبولها والاهتداء بهديها، ولذا استحقوا ألا يُذكروا اليوم إلا مع الترضى لرضى الله تعالى لهم.


 [1] رواه مسلم (121)

[2]  سنن الدارمي 1 / 72

[3]  متفق عليه

[4]  سنن الدارمي 1 / 72

 [5] مسند أحمد 1/ 337

 [6] رواه مسلم (442)

[7]  مجموع الفتاوى 20/215-216

[8]  متفق عليه

[9]  متفق عليه

[10]  رواه أبو داود (4572)

[11]  الرسالة ص:427-429

[12]  رواه البخاري (3274)

[13] رواه ابن حبان (66)

[14] متفق عليه

[15] رواه أحمد (17429)

[16]  ذكره البخاري معلقا 1/41

[17]  رواه ابن ماجه 1/11

[18] المصدر السابق

[19]  رواه البخاري

[20]  رواه مسلم في مقدمة صحيحه ص:10