أكتب هذا المقال ليس لأنني أدافع عن عالم معين أو أجنح إلى اختيار فقهي أو مذهبي معين، ولكن أخط هذه الأسطر دفاعا عن ورثة الأنبياء وقلب الأمة النابض بالعلم والمعرفة والإيمان، دفاعا عنهم حماية لهم من ألسنة رؤوس الجهل والفتن وأصحاب البصائر المنطمسة، وأدافع عنهم في زمن يكرم فيه الفنانون، ويهان فيه أصحاب العلم والفكر والمعرفة، معذرة أيها السادة العلماء كيف ما كنتم وكيف ما كانت مذاهبكم واجتهاداتكم، فالاختلاف موجود والخطأ وارد، ولكن الاحترام والتقدير واجب.
وأنا أتصفح مواقع الإنترنت وصفحات الفيسبوك، لاحظت أن هناك جرأة ووقاحة في الرد على علماء الأمة نتيجة بعض فتاويهم الاجتهادية، فمن رد على هذه الفتاوى ينعت هؤلاء العلماء بأقبح النعوت ويصفهم بأبشع الأوصاف، لأن تلك الفتوى تخالف اختياره الفقهي أو لم يستوعب مقصدها أو أنه وجد فيها جرأة زائدة من ذلك العالم.
وقد سمعت فيما سمعت وشاهدت أنه أصبح يرد على العلماء من هب ودب من الناس، الفنانون والراقصات والمذيعات وشباب الفيسبوك “صغر سنهم أو كبر” بل وحتى الخضار والنجار والإسكافي وصاحب سيارة الأجرة وغيرهم كثير… فلم تعد هناك حرمة للعلماء ولا احترام لاجتهاداتهم العلمية، في حين أن أصحاب العلم والعقول النيرة ساكتون لا يتكلمون، وبعضهم ينضم إلى فرقة السب والشتم، عوض أن يعطى لنفسه وطلبة العلم والناس عموما فرصة للبحث ومقابلة الدليل بالدليل والحجة وبالحجة ومقابلة الشبهة بقرائن اليقين غيرها..
والمفروض في العلماء الكرام المخالفين الالتزام بالمبادئ والقيم والأعراف والقواعد العلمية التي جرت بها العادة في رد الاجتهاد أو تصحيح الأخطاء أو دفع الشبهات، فأي عالم اجتهد وأفتى لا بد له من الدليل أو المنهج العلمي الذي أوصله إلى هذا الاجتهاد، وإذا رأى الآخر أن تلك الفتوى خاطئة أو باطلة، فلا بد له أيضا من الدليل كما قال علماؤنا الكرام: إن كنت ناقلا فالصحة وإن كنت مدعيا فالدليل”، فصحة النقل والحجة والدليل القاطع الراجح أو المرجوح هو مدار النقاش والنقد والمناظرة.
أما وقد أصبحت ذات العالم هي محور النقاش والمدافعة على الوجه الأخص، فهذا أمر غير صحيح ولا يمت بصلة لمنهجنا وفكرنا وثقافتنا بشيء، فيقال غالبا أن هذا العالم الفلاني على سبيل المثال أفتى بهذا الفتوى لأنه جاهل أو مفتون أو أحمق أو غيرها من النعوت السلبية والشاذة، بل وقد ينزع عنه صفة العالمية لأنه أفتى بما يراه مخالفا لاختياره الفقهي أو منهجه في التفكير أو معالجة القضايا والمسائل الخلافية، ولا يجرأ أحدهم من مثل هذا الصنف على مناقشة مضمون الفتوى وردها بالدليل والحجة،.
أيها السادة إن رسولنا الكريم قال “العلماء ورثة الأنبياء“، وعن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”. رواه البخاري وعلق عليه الخطابي فقال: إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه، ثم إنما يؤجر اجتهاده في طلب الحق عبادة، هذا إذا أصاب، وأما إذا أخطأ فلا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط؛ فإذا قضى الحاكم على جهل، فهو في النار والعياذ بالله.
لنحذر كل الحذر أن نعبث بذات العلماء أو نتسبب بالإهانة والأذى لهم، فإنهم أولياء الله والدليل على هذا ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب.. ونقل النووي رحمه الله في “التبيان في آداب حملة القرآن” عن أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله أنهما قالا: إن لم يكن العلماء أولياء الله، فليس لله ولي.
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله: “اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، فإن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب، “فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم”.