يدخل الأستاذ الجامعي إلى قاعة الدرس في اليوم الأول من بدء الفصل الدراسي، فإذا أغلب الأسئلة من طلابه أو طالباته حول الاختبارات وعددها وما هو الداخل بالاختبارات، وما المهم وغير المهم، إلى آخر الأسئلة التي يعرفها كثيرون منكم.. الأمر نفسه يتكرر في المدارس مع المدرسين وطلابهم، ورغبتهم الأولى في معرفة توزيع الدرجات ما بين الاختبارات والواجبات.. وهكذا كل عام أو كل فصل دراسي.
المشاهد السابقة دليل على أمر واحد مؤكد، بل يكاد يكون هو الحقيقة المستمرة منذ سنوات في كثير من مجتمعاتنا، خلاصتها أن الاختبارات هي غاية لا وسيلة. هي الغاية من حضور المدرسة أو الجامعة، وليست وسيلة للتعلم واكتساب المعرفة.
الأنظمة التعليمية تكرّس تلكم الحقيقة أو هذا المفهوم، عبر ذاك الاهتمام الكبير بمسألة الاختبارات، التي غالبها تعتمد على قوة ذاكرة الطلاب ومهارة حفظ واستظهار المعلومات، والتي يتفاوت كثيرون في تلك المهارات والقدرات، فيكون التقييم النهائي وفق ذلك. أي أن صاحب الذكاء الأكاديمي هو الفائز في تلك النوعية من الاختبارات، فيما أصحاب الذكاءات الأخرى: العاطفية، الاجتماعية، اللغوية، الجسدية وغيرها من ذكاءات، سيكون عليهم بعد الثانوية تحديداً، إثبات قدراتهم بطرق أخرى في قادم الأيام، لكن بعد أن تحتضن أنظمة العمل الرسمية أو التوظيف الفئة الأولى، أو أصحاب الذكاءات الأكاديمية، فتكون لهم الأولوية في التوظيف وتوابعها.
في اليابان وبداية من منتصف هذا العام، سيتم تغيير أسلوب تدريس أو تعليم مادة التاريخ على سبيل المثال، بحيث تهدف إلى الفهم وليس الحفظ، وذلك من خلال طرح الأسئلة والبحث عن إجابات منطقية لها. وهذا هو المنطق الذي أنادي به منذ مدة، ليشمل جل المواد، وليس التاريخ فقط، وبالتالي تكون التقييمات وفق ذلك الأسلوب؛ أي أن نختبر ونتعرف على قدرات الطلاب في فهم المادة ومهارتهم في ربطها بحقائق أخرى، وكيفية التعامل معها والاستفادة منها وغيرها، بحيث تكون المحصلة النهائية من التقييمات، هي التعرف على جميع قدرات ومهارات الطالب في تعامله مع المادة العلمية، وعلى ذلك يتم تقييمه بالدرجات، بشرط أن يكون التقييم مستمراً طوال العام، وليس عبر فرض أجواء معينة للتقييم، هي الأجواء التي يعيشها الطلاب أيام الاختبارات، وما لذلك من تأثيرات نفسية على الأداء بشكل عام.
استثمار ثورتي المعلومات والاتصالات
الحاصل الآن ومنذ عقود عدة، على رغم تطور التعليم وتقنياته ووسائله، وتطور العالم من حولنا بثورة الاتصالات والمعلومات فإن التقييم لا زال كما هو لم يتغير إلا قليلاً، دون استثمار هذا التطور الهائل والمستمر في التقنية ووفرة المعلومات، التي تجتاح العالم منذ أكثر من عقد من الزمان.
حتى تكون الصورة واضحة لما أروم إليه، خذ مثالاً مادة الاجتماعيات للمرحلة الإعدادية على سبيل المثال، لا الحصر. كمية المعلومات في تلك المادة كبيرة، وبالتالي صار من يحفظ أكثر، يحصد درجات أكبر، بغض النظر إن كان الحفظ عن فهم ودراية أم لا. الاختبارات ها هنا تقيّم قوة ذاكرة الطالب، وقدرته في حفظ أزمنة الأحداث، وحفظ أسماء الشخصيات والمدن والمواقع، وغيرها من معلومات لا تستدعي الحفظ واستحضارها وقت الامتحان، وتعبئة الذاكرة البشرية بها وهي متوفرة في أي زمان وأي مكان. بمعنى أن الحصول عليها الآن لا تستغرق ثوانيَ معدودة.
لماذا يحفظ الطالب مثلاً نتائج الثورة الفرنسية ومتى كانت معركة العلمين أو وقت إنزال “النورماندي” أو “معركة أوكيناوا” وغيرها من أحداث تاريخية، ومعلومات أخرى دسمة في الجغرافيا ستكون جميعها حاضرة بكبسة زر وفي ثوان معدودة؟
لماذا لا يكون التقييم على قدرة ومهارة الطالب في الوصول إلى المعلومة، والاستفادة منها في الإجابة على الأسئلة، عبر اختبارات ما يسمى بالكتاب المفتوح مثلاً أو الاستعانة بالإنترنت في الإجابة، وأن تكون نسبة أخرى من الدرجة لتقييمه- من بعد تدريبه- على مهارة تحليل الأحداث التاريخية بحسب مستواه التعليمي، وكتابة رأيه فيها، وغير ذلك من طرق وأساليب التقييم المختلفة التي تناسب هذا الجيل، أو الجيل الرقمي؟
إقرأ أيضا :
معا نربي أبناءنا
الأمر ليس مقتصراً على مواد الاجتماعيات، بل يشمل كذلك اللغة العربية بتفصيلاتها في قواعد اللغة والبلاغة، التي -في رأيي- ما تزيد أساليب التدريس غير مزيد ابتعاد الطلاب عن لغتهم الأم ومزيد نفور، ثم تكون المحصلة بعد الثانوية، لا مهارة قراءة ولا كتابة ولا فهم أحياناً كثيرة! وقس على ذلك تقييمات العلوم الشرعية والعلوم العامة وغيرهما من مواد.
لا أقصد إلغاء التقييمات أو الاختبارات، لكن تعديل الطرائق والأساليب، فما كان معمولاً به زمن ندرة الكتاب وندرة مصادر المعرفة، التي جعلت حفظ ما بين غلافي كتاب كل مادة من اللوازم الأساسية لاكتساب المعرفة، لم يعد كذلك الآن مع هذا الجيل. لابد من مراعاة هذا التغيير الحاصل من حولنا مع أبنائنا.
زمننا هذا لم يعد زمن حفظ معلومات واستحضارها وقت الاختبار. نعم لحفظ ما لابد منه كالقرآن والأحاديث وما يلزم الإنسان في عبادته. أما غير ذلك، فنحن نعيش زمن معلومات وتقنيات، وبالتالي نحتاج إلى تعليم وتوفير أداوت البحث لطلابنا، وكيفية الوصول للمعلومة وكيفية توظيفها، ومن ثم تقييمهم على تلك المهارات وما ينتج عنها، بالإضافة إلى تعزيز ودعم وتطوير مهارات الكتابة والقراءة والتفكير والتحليل، ليس بعد دخول الطلاب إلى الجامعات فحسب، بل منذ نعومة أظفارهم في الابتدائية وما بعدها. والموضوع في هذا يطول ويتشعب.
مسألة الاختبارات، كخلاصة لهذا الحديث ولاسيما الثانوية العامة، بحاجة لإعادة نظر وتجديد وتطوير وفق مستجدات العصر، كي تواكب وتوائم ما يجري حولنا في هذا العالم من تطور طال معظم مجالات الحياة. فلماذا لا يصل هذا التطوير إلى التعليم وطرائق التقييم بالمثل؟
سؤال موجّه للسادة القائمين على نظام التعليم عندنا وما حولنا في العالم العربي.