بينما يبدو عاديا وقوف مسؤول حكومي إلى جانب المواطنين في انتظار المترو، أو ذهابه للعمل صباحا على متن دراجة هوائية، يثير سلوك من هذا القبيل موجة من الاندهاش والمقارنة في بلداننا المتخمة بالتقاليد المرعية، وغير المعتادة على إلغاء المسافة بين المواطنين وأي مسؤول كيفما كان وزنه، لأن “العين لا تعلو على الحاجب”، والناس “مقامات”..
وتشهد مواقع التواصل الاجتماعي تجاذبا للآراء والمواقف، بشأن المفارقة الحادة بين قادة ومسؤولين هناك، يتمتعون بحس خدمي واحترام للمواطن؛ وبين أقرانهم هنا، ممن يعضون بالنواجذ على التراتبية الجافة، ومفردات الوجاهة، والأداء المصحوب بالمن والأذى.
من خلال منظومة الواجبات التي أرساها الإسلام، نلمس حرصا شديدا على التمكين للحس الخدمي في شتى تصرفات المسلم، وإكساب المسؤولية سمات المُباشَرَة والنزول إلى الميدان، وعدم الاكتفاء بإصدار الأوامر. ونلمح في السيرة النبوية مواقف عديدة لهذا الحس الذي يُسهم في تمتين أواصر الثقة، وبث العزم والفاعلية في نفوس الأفراد.
لما دخل النبي ﷺ المدينة شرع في بناء المسجد مع أصحابه، وضرب أول معول لحفر الأساس.
أما حين اعتمد رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، فلم يكتف بتقسيم أعمال الحفر بين المسلمين، بل شارك ﷺ في نقل الحجارة حتى وارى التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشَعر.
وفي بيته شهدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنه كان يخدم نفسه: يرقع الثوب، ويخصف النعل، ويحلب الشاة.
التقط الصحابة رضوان الله عليهم هذا الحس الخدمي، فتعددت صوره ومظاهره في فترة الخلافة الراشدة. وحفظ سجل التاريخ وقائع وأخبارا تضعنا أمام نماذج إنسانية فريدة، هيأت للقيم نظامَ تشغيل في واقع الحياة العملية.
لكن مع بروز الدولة الأموية، وإعادة تشكيل الحياة السياسية وفق الموروث الفارسي وتقاليد الحكم الكسروية، خضع المجتمع الإسلامي لنظام طبقي غير مألوف، ونشأت المسافة الضرورية بين العامة والخاصة من رجال الدولة، تبعا للثقافة الجديدة التي تحصر دور الأفراد في الطاعة، ومهام الحاكم في فحص أسرار الرعية بتعبير الجاحظ !
يتطلب الحس الخدمي مهارة فائقة في رصد احتياجات الأفراد، والمبادرة إليها قبل أن تتحول إلى مطالب. وسواء جرى التعبير عنها قِبلا أو ضمن سياق حدوثها، إلا أنها تؤكد بأن المناصب وسائل لتحقيق النفع العام وليس غاية في حد ذاتها. هكذا نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوظف حسه الخدمي لطمأنة المشاركين في البعوث العسكرية على وضعهم الأسري ،بعبارة غاية في الحنان على الرعية: ” وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى تعودوا..”.
ويمد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز حسه الخدمي ليشمل كل مفردات الخليقة، فيحفظ له سجل التاريخ قراره المأثور: اشتروا قمحا وانثروه على رؤوس الجبال، كي لا يقال: جاع طير في بلاد المسلمين!
إلى جانب رصد الاحتياجات يستلزم الحس الخدمي تجميعا للطاقات النفسية والمادية التي تحقق وصول الخدمة وبلوغ أثرها المطلوب. تحت عنوان “روح الخدمة” يعرض المهاتما غاندي في سيرته الذاتية تجربته الخاصة لإضفاء أكبر قدر من البساطة على حياته، عن طريق الاضطلاع بعمل إنساني دائم. وفي هذا الصدد يحكي قصة شخص مصاب بالجذام وقف يوما على بابه، وكيف أن حسه الخدمي دفعه لبذل جهد متواصل، ليس فقط لتمكين هذا السائل من العلاج، وإنما لجمع تبرعات تكفي لافتتاح مستشفى خيري، ثم التطوع بساعتين يوميا للقيام بأعمال التمريض وتركيب الأدوية. وكان من ثمار هذه التجربة أن تمكن غاندي من عرض خدماته التمريضية للعناية بالجنود المصابين خال حرب البوير.
تئن مجتمعاتنا اليوم تحت وطأة تراجع الحس الخدمي، والميل في أحسن الأحوال إلى أداء الواجب مجردا من حسه الإنساني الذي يشعر الآخر بالرضى وطيب الخاطر. وأمام سيل الشكاوى تبادر المؤسسات إلى تمتين قبضة الزجر والترتيبات الصارمة، تاركة رهانَ القيم حبيس الأمنيات !