ربما يتصور بعض الناس أن علم الاقتصاد الإسلامي علم وليد العصر، بل لا تعدم من يجهل أن يكون ثمة للإسلام منهج كامل في علم الاقتصاد!
ليس هذا فحسب، بل كثيرا ما نسمع أن علماء المسلمين أتخموا المكتبة الإسلامية بالحديث عن فقه الطهارة والعبادات، في الوقت الذي قصَّروا فيه في علم الاقتصاد، فلا تكاد تجد لهم فيه إلا كتبا معدودة ومن علماء معدودين!
350 كتابًا
لكن المفاجأة التي كشفتها الدراسة الميدانية أن عكس ذلك هو الصحيح، فللعلماء الأقدمين إسهامات في علم الاقتصاد لا تقل عن إسهاماتهم في غيره من العلوم الإسلامية.
ففي دراسة قام بها الدكتور ياسر عبد الكريم الحوراني[1]، كشفت عن إسهامات في الاقتصاد الإسلامي لعلمائنا الأقدمين، عددها 350 كتابا، تعود إلى 282 مؤلِّفا من علماء المسلمين.
وفي المقابل ليس عندنا هذا العدد من المؤلفات في فقه الطهارة بخصوصه، أو العبادات بخصوصها، وغني عن الذكر أننا لا نقصد الأبواب الجزئية التي تنتظمها كتب الفقه والحديث ؛ وإلا فإن لهذه أبوابا جزئية تماثلها في الاقتصاد موزعة على أبواب البيوع والشركات والربا والزكاة والنفقة وغيرها.
ولم تكن الكتابة في علم الاقتصاد على مر تاريخ الدولة الإسلامية من قبيل الترف أو الفكر الافتراضي، بل كان تساوقا مع واقع الدولة الإسلامية الممتدة، التي تعتمد على سياسة مالية ما، ولها منهجها في السياسة النقدية كذلك، ولا غرو حينئذ أن تكون هذه المناهج متسقة مع الإسلام الذي ينظم الحياة في جميع نواحيها حينئذ.
أصول الاقتصاد والنظام المالي
وقسمت الدراسة هذه الكتب ال 350 حسب تقسيمات علم الاقتصاد الحديث إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول : أصول الاقتصاد، مثل كتاب الكسب للشيباني، المتوفى 192 هـ، وأحكام السوق ليحيى بن عمر المتوفى سنة 289هـ، وكتب الحسبة.
القسم الثاني : النظام المالي، مثل الخراج لأبي يوسف، المتوفى 182 هـ، وكل كتب الخراج والأموال، والأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية.[2]
يقول الدكتور رفعت العوضي:
“مما ينبغي ذكره أن الفقه المالي والاقتصادي يسع المعاملات المستجدة ، والمتطورة في الاقتصاد، كما ثبت ذلك”.
ويقول : ” ويعني هذا أن الفقه المالي والاقتصادي هو واحد من العلوم التي أولاها المسلمون الأوائل أهمية…ويقوم دليلا إلى الأدلة التي تنقض ما تعلق به المستشرقون ومن يأخذ برأيهم من أنه لم يكن للإسلام نظام اقتصادي”
ويضيف : ” إن بعض هذه الكتب كتبت بطلب من ولي الأمر…ويعني هذا أنها كانت تمثل سياسات وبرامج مالية اقتصادية للدولة الإسلامية…إضافة إلى ذلك فإن التدوين في الفقه المالي والاقتصادي وإن كان بدأ مع التدوين في الفقه العام فإنه تطور وازدهر معه أيضا ازدهارا واسعا”.[3]
تقصير معاصر
لكن التقصير حقا كان معاصرا، فإن الدراسات المعاصرة التي قامت على خدمة هذه المصادر التراثية ال (350) لم تتناول منها سوى 20 مصدرا، بنسبة 5.7 %.
وأما عدد المؤلِّفين ال (282) فلم تتناول الدراسات المعاصرة منها غير 18 مؤلِّفا بنسبة 6.4%، ما يدل على عدم وجود آلية علمية أو بحثية ممنهجة بطريقة واعية لتغطية الموروث الفكري للأمة، وسبر أغوار المخطوطات المتاحة بطريقة شاملة؛ فإن بعض هذه المؤلفات لا يزال مخطوطا.
وبالمجمل فإن عدد الدراسات المعاصرة التي قامت على خدمة هذه المصادر التراثية هي 63 دراسة تمثل المجموع الكلي.
أ – نطاق ضيق
كما تتركز الدراسات المعاصرة في نطاق ضيق من الكتب والمؤلفين معا، في بعض كتب التراث ال (350) فمقدمة ابن خلدون وحدها حظيت ب (15) دراسة. وكتاب الحسبة لابن تيمية حظي ب (7) دراسات حوله. وكتاب الخراج لأبي يوسف حظي ب (9) دراسات حوله.
وهذا لا يعد غمطا لباقي المؤلِّفين فقط، بل يعد تقصيرًا في حق المصنفين أصحاب هذه الدراسات نفسها، فابن تيمية مثلا له كتب أخرى غير الحسبة لكنها لم تحظ بدراسات حولها.
ب – العمومية
ومن أوجه قصور الدراسات المعاصرة التي قامت على خدمة هذه المصادر التراثية ال (350) افتقارها إلى التخصصية وجنوحها إلى العمومية في التناول.
فمن بين 9 دراسات حول الخراج لأبي يوسف لم توجد إلا دراسة واحدة متخصصة عن ( الاتفاق الاستثماري)، وكذلك لا يوجد سوى 5 دراسات متخصصة في فكر ابن خلدون من مجموع 15 دراسة، وهذه المحاور الخمسة هي : مفهوم الملكية والجاه، ومالية الدولة، والتفسير الاقتصادي للتاريخ، والقيمة والإنتاج، والنمو الاقتصادي.
وفي المجمل، لا توجد إلا 14 دراسة متخصصة من أصل 63 دراسة تمثل المجموع الكلي، وإذا استثنيت المقالات انخفضت مشاركة الدراسات المتخصصة إلى 7 دراسات بنسبة 11%
جـ – الأصالة العلمية
من المعروف أن البحوث الجامعية من رسائل ماجستير ودكتوراه تمتاز عن غيرها بالدقة والأصالة والالتزام بضوابط البحث العلمي.
وهنا نذكر أن ال 63 دراسة المعاصرة، 32 دراسة منها فقط هي التي تنطبق عليها معايير الدقة ومراعاة ضوابط البحث العلمي، حيث لا تتجاوز الرسائل الجامعية 14 رسالة، منها 9 رسائل ماجستير، و5 رسائل دكتوراه، وأما البحوث المحكمة فلا تزيد عن 18 بحثا، منها 11 بحثا عن الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون.
أما ال 31 دراسة المتبقية فهي عبارة عن مقالات !
موضوعات الدراسات الاقتصادية التراثية
ويحسن هنا أن نسوق بعض المحاور التي دارت حولها المصنفات الدراسية ال 350:
1 – مؤلفات في أحكام الأرض، مثل التحفة المرضية في الأراضي المصرية لابن نجيم المتوفى سنة 990هــ.
2- الاستهلاك، مثل المأكل للبرقي 376ه،، وأكل الحلال لابن تيمية المتوفى 728هـ.
3- بيت المال، مثل كتاب الخمس لابن مهزيار، المتوفى سنة 250هـ.
4- التجارة ، مثل كتاب الربح والخسارة في الكسب والتجارة للسمعاني،المتوفى سنة 562هـ.
5- الحسبة، مثل كتاب الحسبة في الإسلام لابن تيمية.
6- الخراج، مثل كتاب الخراج ليحيى بن آدم، المتوفى سنة 203 هجرية، ويوجد في هذا المحور حوالي 30 كتابا.
7- الربا مثل كتاب تحقيق الربا لابن كمال باشا، المتوفى سنة 940هـ.
8- الرفاهية، مثل كتاب الرفاهية للبرقي، المتوفى 376هـ.
9- الأرزاق، مثل كتاب الأرزاق للنظام، المتوفى 231هـ.
10- الزراعة والفلاحة. وألف فيها الكثير.
11- الزهد وقيم القناعة. وألف فيها الكثير.
12- الأسعار وظاهرة الرخص والغلاء، مثل كتاب الأرزاق و الآجال والأسعار للنوبحتي، المتوفى سنة 310هـ.
13- السوق، وأحكام المكاييل والموازين، والسمسرة، مثل كتاب أحكام السوق ليحيى بن يعمر، المتوفى سنة 286هـ.
14- العمل التجاري.وصنف فيه : صفوان البجلي (ت210هـ)
15- الصناعة: وهو محور يبحث مواصفات الصناعات وآلاتها وأدواتها وأسمائها ومواسمها، ويقارن بين الصناعة والحرفة، ويصف أسعار بعض الحاجات وأجور العمال.وقد صنَّف فيه: ابن السائب الكلبي (ت 204هـ) وهو مؤرخ من الكوفة، وله(صنايع قريش).
16- الإقطاع: يعالج الأحكام الشرعية للأرض المستقطعة من الحاكم لبعض الموظفين، ثم مدى جواز القيام بإجارتها.
وقد صنف فيه: الواقدي (ت 207هـ) ، وله (مداعي قريش والأنصار في القطائع ووضع عمر الدواوين)،والمدائني (ت 225هـ)، وله (إقطاع البني)، والغزاري (ت 729هـ)، وله (صحة إجارة الإقطاع).
17- المياه: يبحث في طبيعة المياه وأنواعها وطرق معالجتها وكيفية استخراجها وتحويلها ومصادرها والمفاضلة بينها.وقد صنف فيه: أبو زيد الأنصاري (ت 215هـ) وهو أديب ونحوي من البصرة، وله (المياه) ، وسعدان بن المبارك (ت 220هـ) وهو أديب م بغداد، وله (كتاب الأرض والمياه والجبال والبحار)، والكرخي (كان حياً 407هـ)، وله (أنباط المياه الخفية).
18- النقود: ويتضمن موضوعات متفرقة عن الدرهم والدينار والمثقال والأوقية والرطل قبل الإسلام، والنقود الإسلامية ومراحل تطورها والنقود المصرية، وكيفية تحرير حساب الدينار والدرهم، والنصاب فيها، وحكم بيع نقد بنقد متفق عليه، وتغير سعر النقد، ومصادر الذهب الوارد إلى دور السك، وتطور العملة في مصر، والعلميات الكيماوية اللازمة لصناعة الذهب والفضة، والقيمة الاستبدالية للنقود في حالات الرخص والغلاء.
وقد صنف فيه: الواقدي، وله (ضرب الدراهم والدنانير)،والمدائني ، وله (ضرب الدراهم والصرف)، والجلودي (ت 332هـ) وهو مؤرخ وأديب من البصرة، وله (الدنانير والدراهم)،والعسكري (ت 382هـ)، وله (الدرهم والدينار)،والسَّمَوْءل (ت 570هـ)، وله (الكافي في ساب الدرهم والدينار) ،والمقريزي، وله (شذور العقود في ذكر النقود)، والمناوي، وله (نبذة في النقود القديمة)82، والطبري (ت 1033هـ) من علماء الحجاز، وله (رسالة في النقود) ، ومنصور الذهبي (ت 1136هـ)، وهو عالم بصناعة الذهب من مصر، وله (كشف الأسرار العلمية عن دار الضرب المصرية)، والهلالي (ت 1175هـ)، وله (الراحم في الدراهم)، وابن عابدين (ت 1252هـ)، وهو فقيه وأصولي من دمشق ، وله (تنبيه الوقود على مسائل النقود) وغيرهم.
[1] – الدراسة، نشرها معهد الفكر العالمي للفكر الإسلامي. والدكتور ياسر عبد الكريم الحوراني حاصل على الدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي، جامعة أم درمان، ومحاضر في جامعة اليرموك.
[2] – حقيبة الدكتور علي القره داغي الاقتصادية ( 2/120)
[3] – فقه الاقتصاد الإسلامي، المنشور في حولية الشريعة بجامعة قطرس1407، ص292