في سبيل مواجهة تحديات الحاضر ومشكلاته، وتحقيق نهضة راسخة باتجاه “التنمية المستدامة”، لا غناء عن استشراف المستقبل ومواكبة الدراسات الجادة المتنامية في “علم المستقبليات”. وهو ما نبّهت إليه وتناولت بعضَ جوانبه “المجلة العربية”، وذلك في ملف عددها بمارس 2024م.

“الملف” جاء متنوعًا وثريًّا، شارك فيه باحثون من عدة دول عربية، بمجموع 13 مقالاً، ونعرض لأهم خلاصاته في هذا المقال.

مفهوم علم المستقبليات

“استشراف المستقبل” هو العلم الخاص بعملية التنبؤ بالأوضاع الاجتماعية والسياسية المتوقع حدوثها في المستقبل القريب.

وهو يقوم على قراءة مقدمات الواقع التي تحمل تشكلات الوقائع الفردية المتوالية، ومنها يمكن استخلاص (المبادئ) العامة التي تسيرها، وهو ما يشي بالصورة المستقبلية للمجتمع.

مواقف مع “المستقبل”

الإنسان في تعامله مع “المستقبل” أمام ثلاثة مواقف:

  • الأول: موقف الخضوع والاستسلام: وهو يُفقد الإنسان الكثير من آماله، ويرسم له مستقبلاً مهددًا دومًا بالتغيرات المفاجئة، والعجز التام الذي سيشل مسيرة المجتمع تنمويًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا.
  • الثاني: موقف الانفعالية غير المدروسة: وهو يتخذ من ردة الفعل المباشرة غير المحسومة ركيزة وبوصلة للتحرك في مواجهة طوارئ المستقبل. وهو بطبيعة الحال موقف أثبت فشله خصوصًا في المؤسسات الكبرى.
  • الثالث: موقف (إدارة المستقبل): أي وجود الاستشراف المستقبلي الذي يُعنى بتهيئة المؤسسة للاستعداد التام لمواجهة التغيير، من خلال قراءة المعطيات الواقعة والظواهر القائمة دون تجاهل تاريخها، والتنبؤ بأثرها عبر وضع فرضيات تتناسب مع موثوقية المعطيات ودراستها، وتغييب المثالية الزائفة في تزيين الواقع المؤقت، والسعي للاستعداد الكامل في سبيل تحقيق المأمول والتطوير والتنمية.

بدايات علم المستقبليات

تشير بداية ظهور “علم المستقبليات” إلى الفترة الفاصلة بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وخلال هذه الفترة أجريت العديد من الدراسات التي اعتمدت على التغيرات التاريخية من جانب وعلى المتغيرات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والتكنولوجية والثقافية من جانب آخر؛ حيث استخدمت تلك الدراسات العديد من منهجيات البحث مثل: السيناريوهات المنمذجة، وتحليل النماذج والاتجاهات المستقبلية.

وعود

تحمل “الدراسات المستقبلية” في جعبتها الكثير من النفع الذي يعود على الإنسان بتجويد الحياة، والنهوض بمجتمعه وتطويره، حتى الوصول إلى السلام والتنمية. فمن خلالها يكشف الإنسان عن أسباب معاناته، ومفاصل مآسيه ومواجهتها بحلول جذرية، ومن ثم يكتشف قدراته وطاقاته الكامنة التي تغيب وسط أمواج الحياة المتراكبة. وهو ما يدعو إلى فهم طبيعة الاختبار والاختيار التي لا تفارق حياة الإنسان.

كذلك، تُظهر الدراسات المستقبلية العقولَ المبدعة في المجتمع الإنساني، فهي تستقطبها بطبيعتها اللانمطية، وتقف مواجهة للتقليدية والاندفاعية العشوائية ومقاومة التغيير، وتعتمد المنهج النقدي الفاعل، وتمجّ التنظير البائس البارد؛ مما يجعلها البيئة المعرفية المناسبة للمستقبليّين الذين لا يملّون الأحلام، ولا يعرفون المستحيل، بل يجعلونه ممكنًا.

مبدآن

علم المستقبل ينطلق من مبدأين:

  1. مبدأ اللايقين: وهو مبدأ فيزيائي يقود إلى عدة أمور من أهمها: لا يمكن لأي أحد أن يُعطي قولاً جازمًا وأخيرًا عن المُستقبل؛ لأن من طبيعة العالم الذي نعيش فيه أنه محكوم باللايقين.
  2. مبدأ اللاوعي: أي أن الإنسان لا يملك وعيًا مباشرًا بذاته، فهو مخترق من جهات عدة من التربية والمجتمع وحدود قدراته المعرفية والحسية وخبرات طفولته وغير ذلك. وهذا يعني أن الإنسان لا يملك سيطرة مطلقة على ذاته وعلى المستقبل.

وهذان المبدآن يحميان الإنسان من استبداد المقولات الجاهرة، وما يترتب عليها من حروب باسم المثالية وحتى المادية.

احتياجات علم المستقبليات

“علم المستقبليات” ما زال في طور الولادة والنمو عند العرب؛ لعدم اهتمام الأنظمة العربية به وأخذه على محمل الجد كعلم يستفاد به ويتم توظيفه بما يخدم الأمتين العربية والإسلامية. وما زال “علم المستقبليات” لدى العرب مستنبطًا من قيادة الدول الغربية لهذا العلم.

ومن جهة أخرى ينقص هذا المجال بحوث دراسية للماضي والحاضر لكي تكون أساسًا ينطلق منه العلماء؛ فالتطور السياسي والاقتصادي يدعم ويدفع أفراد الأمة للسعي في الحفاظ على هذا التقدم برؤية وتنبؤ ما قد يؤثر عليه سلبًا وإيجابًا لمعرفة كيفية التعامل مع هذه الظروف مستقبلاً.

اتجاهات علم المستقبليات

بما أن “علم المستقبليات” يعد علمًا ديناميكيًّا يتأثر بمتغيرات البيئة الخارجية، سواء الاقتصادية منها أو السياسية أو التكنولوجية أو الاجتماعية؛ فإن الدراسات أظهرت له العديد من الاتجاهات الحديثة، والتي يمكن أن تتغير وتتطور مع مضي الوقت ومع التغيرات التكنولوجية الحديثة.

ومن أهم هذه الاتجاهات الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية، مثل الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، وذكاء الأعمال، والروبوت؛ وكذلك أنظمة الطاقة الحديثة والمتجددة، مما لها أثر إيجابي أثناء استغلالها بالشكل السليم على المجتمعات ومستقبل منظمات الأعمال.

كما تعد “التنمية المستدامة” أحد أهم الاتجاهات الحديثة لعلم المستقبليات، من خلال التركيز على القضايا المجتمعية بدمجها مع التقدم الاقتصادي والبيئي المناسبين.

كما أن الجوانب الكمية والنماذج الرقمية لها نصيب من الاتجاهات الحديثة لعلم المستقبليات، من خلال التركيز على تحليل البيانات واستنتاج السيناريوهات المستقبلية، والخطط الإستراتيجية المرنة التي تساعد في تمكين الأفراد والمجتمع لبناء مستقبل واعد من جهة، وفي التحسين المستمر والتكيف مع الظروف المستقبلية المتسارعة وحل المشاكل والتعقيدات من جانب آخر.

إستراتيجيات

يستند “علم المستقبليات” على عدة إستراتيجيات لمواكبة المعطيات المعاصرة التي تنبئ بمستقبل جديد ومختلف، أبرزها:

  1. التعاون مع خبراء من مختلف المجالات والاختصاصات، لجمع قاعدة بيانات شاملة من مختلف الاختصاصات.
  2. البحث الدائم والمواظبة عليه.
  3. التخطيط لسيناريو شامل محتمل حدوثه بناء على معطيات حالية.
  4. استخدام بيانات ضخمة من مصادر موثوقة.
  5. الاستناد على التكنولوجيا، فهي اليوم المحرك الرئيس للعالم أجمع.
  6. الاستعداد للحالات الطارئة والاستجابة لها فورًا.
  7. التعاون بين مختلف دول العالم.

غياب

رغم أهمية “علم المستقبليات” فإن حضوره يبقى خجولاً أو شبه غائب، حتى في بقاع عدة من العالم! إذ يواجه تحديات في الانتشار والتطبيق في بعض الأماكن في العالم، لا سيما في الدول الفقيرة التي تعاني من أزمات اقتصادية، وفي الدول التي تعاني من نزاعات سياسية، أو الدول ذات البنية التحتية الضعيفة.

وتعد السياسة والاقتصاد والبنى التحتية مثلاً، من الركائز للدراسات المستقبلية؛ وبالتالي مع غيابها سيغيب حتمًا “علم المستقبليات”. ومع الأسف الشديد هذا العلم شبه غائب في دول عدة، تفتقر لأساسيات الحياة.

بيانات

البيانات الضخمة المنظمة والدقيقة أصبحت تلعب دورًا مهمًّا في مسار عمليات استشراف المستقبل، ورسم الخطط الإستراتيجية والسياسات لصانعي القرار على كافة المستويات.

وربما كانت تلك الحقيقة المهمة واحدة من أهم العوامل الكامنة وراء ارتفاع حجم الطلب الوظيفي العالمي، من جانب كبرى الشركات الخاصة والمؤسسات الحكومية على حد سواء، على العلماء والباحثين القادرين على التعامل بدقة مع الكم الهائل والمتزايد من البيانات الضخمة (Big Data) وتوظيفها في التحليلات التنبؤية (Predictive Analytics) المختلفة؛ وذلك بهدف العمل على استخلاص المعلومات وتطوير الرؤى التي تخدم أهدافها ومصالحها المستقبلية في مجالات متنوعة، مثل التجارة الإلكترونية، والاستثمارات الاقتصادية، والتغيرات البيئية والمناخية، والسياسات العامة للدولة، والاستخبارات العسكرية والأمنية، وتسويات النزاعات، وعمليات بناء السلام، وغيرها.

تداخل

هناك تداخل بين “الدراسات الإستراتيجية” و”الدراسات المستقبلية“، باعتبارهما حقلين متمايزين. فرغم اختلاف مجال عمل كل منهما، أصبحت الدراسات المستقبلية مؤخرًا معنية أكثر بالموضوعات ذات الطابع الإستراتيجي. فالعمل البحثي يجب أن يكون استباقيًّا، وأي عمل بحثي لا يراعي الاستباقية ضعيف القيمة.

لذا، فمراكز الأبحاث يجب أن تُنشئ بداخلها وحدات إنذار مبكر تضع مؤشرات لاستشراف المستقبل أمنيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وغير ذلك. وتؤدي مراكز الفكر والبحوث من خلال دراساتها دورًا مهمًّا في مجال “المستقبليات” أو المجال “الاستشرافي”، خاصةً مع تطور علم الدراسات المستقبلية في العالم الغربي، بل وأصبحت نتائجها من المتطلبات الأساسية للتخطيط الإستراتيجي في الدول المتقدمة. وإن كان هذا النوع من الدراسات في العالم العربي لا يزال يقوم في الكثير منه وفق تنبؤات أو تقديرات أو انطباعات تتولد لدى الباحثين أكثر منه الاعتماد على أسس علم المستقبليات.

مميزات

يهتم “علم المستقبليات” برصد التغيرات في الظواهر الإنسانية وتحديد الاحتمالات المختلفة لتطورها في المستقبل، ويتميز بالآتي:

  • توفير رؤى إستراتيجية.
  • تحليل الاتجاهات والتوجهات.
  • توقع المشكلات والتحديات.
  • تطوير المناهج والأساليب.
  • توفير الاستدلال العلمي.

وتشير نتائج الدراسات والبحوث إلى أن “علم المستقبليات” قد تطور بشكل سريع وملموس في العديد من المجالات والدول حول العالم، وقد جاءت هذه الدراسات لمواكبة الاهتمام العالمي بالتحليل المستقبلي منذ صدور كتاب (حدود النمو) في عام 1972م، وظهور مراكز البحوث والدراسات المستقبلية.

تحديات

يواجه “علم المستقبليات” في العالم العربي والإسلامي بعض التحديات فيما يتعلق بالتوطين وسبل التفعيل. ومن أسباب ذلك:

  • غياب الإطار النظري.
  • غياب الرؤية.
  • الصعوبات المنهجية.
  • التنوع التاريخي والمفاهيمي.
  • قلة الاهتمام.

واجبات

يجب على الدول العربية أن تطور من المهارات التكنولوجية، وتشجع التعاون المعرفي المتبادل مع الجهات ذات العلاقة، للتخلص من مشاكل الضعف في البنى التحتية، وانخفاض أعداد العاملين، والتي تؤثر بشكل سلبي على المجتمع وعلى مستقبل منظمات الأعمال، ولاسيما وجود رؤية إستراتيجية تقوم الدول العربية بإعدادها، تركز على “علم المستقبليات” وأثره في ترسيخ مفهوم البحث العلمي، وتأكيد دور ريادة الأعمال وتطوير التكنولوجيا في بناء مستقبل مبشر.

كما يجب التركيز على دعم البحث العلمي وتقديم كافة الموارد المطلوبة، بما فيها تكليف الجامعات ومراكز البحوث والتطوير والإبداع والريادة؛ بالإضافة إلى تدريب الكوادر على التعامل مع التقنيات والأدوات الحديثة، التي تساعد في رسم السيناريوهات المستقبلية السليمة. كما يتوجب تعزيز أطر التعاون الدولي والإقليمي في “علم المستقبليات” لتبادل الخبرات والمعارف، التي تسهم في تحقيق “التنمية المستدامة”.

الذكاء الاصطناعي

تقدمت التكنولوجيا بشكل كبير في مجالي الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، وهما الآن جزء لا يتجزأ من “علم المستقبليات.

ويمكن للذكاء الاصطناعي تحليل البيانات بشكل أكثر تعقيدًا، واستخراج أنماط واتجاهات غير مرئية بسهولة، متفوقًا على الطرق التقليدية التي كانت متبعة سابقًا. وبالتالي، يمكن استخدام هذه التقنيات لتطوير نماذج تَوقُّعِية دقيقة تساعد في تحليل ما قد ينتج في المستقبل.