مما يُسأل المرء عنه يوم القيامة: الشباب وفيما أبلاه. هل أمضى فورة شبابه وعطائه ومواهبه فيما ينفع المجتمع، ويُسهم في البناء الحضاري لأمته، أم أنها كانت أيام لهو وقتل للساعات فيما لا يفيد، وبذل القدرات والإمكانات التي منحها الله تعالى إياه في هوامش إلهاء تَصدُّ عن العمل الصالح، وتحقيق العبادة في أوسع معانيها.
إن مبنى الشريعة الإسلامية وغايتها هو تكريم الإنسان، وتثمين وجوده وحركته في الكون. لذا كانت أسمى وظيفة دُعي إليها هي العبادة، مصداقا لقوله تعالى ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ [ الذاريات-56].عبادة تتسع لتشمل حركته وسكونه في شتى مظاهرها. فلا حركة إلا لمقصد، ولا سكون إلا استجابة لغاية، وبذلك ينفصل عن سائر المخلوقات، ويُمعن في تسديد خطاه لتُطابقَ السبيل الإلهي.
لبلوغ تلك الغاية شدّدت الآيات والأحاديث النبوية على أهمية الوقت والجهد، وحثت المسلم على أن يبذل عمره وطاقته في العمل الصالح، ويلتمس معاشه في مجالات تحقق العائد الحضاري والعمراني الذي تنتفع به الأمة بأسرها. من هذا المنطلق تصدى أهل العلم لأوجه الكسب المنحرفة، وألوان البطالة المقنعة، حيث يُبدد بعض الناس مواهبهم في حِرف خسيسة، ويصبح الإبداع و الاحتيال وجهان لعملة واحدة.
بعد أن بسط الحديث عن أنواع الصناعات والأشغال الدنيوية، توقف الإمام الغزالي في (الإحياء) عند الممارسات التي تندرج تحت بند الكسب المنحرف. ووصف الأساليب التي يلجأ إليها الباحثون عن الغنيمة الباردة، كادعاء العجز والمرض والعمى، أو التماس الأقوال التي تعجب الناس وتنبسط لها قلوبهم، كالتّمسخُر والأفعال المضحكة، وأصحاب القرعة والفأل من المنجمين، وجنس من الوعاظ غرضهم استمالة قلوب العوام لأخذ أموالهم. ولو سعينا لترجمة كلام الغزالي رحمه إلى لغة العصر الحديث لقلنا أنه يستهدف تسعة أعشار القنوات الفضائية وشركات الإنتاج السمعي و البصري !
ويحذو ابن خلدون في المقدمة [ج2.ص267] حذو الغزالي حين يقرر الوجوه الأربعة للمعاش في الإمارة، والفلاحة، والتجارة، والصناعة. ويعترض على الوجوه المنحرفة كالسعي وراء الكنوز و الدفائن. يقول ابن خلدون: (( الذي يحمل على ذلك في الغالب، زيادة على ضعف العقل، إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب، من التجارة والفلاحة والصناعة، فيطلبونه بالوجوه المنحرفة)). ثم يمضي في سرد المزاعم والادعاءات التي يُلبّس بها صيادو الكنوز على العوام، وكيف يبذلون أعمارهم خلف أطماع الثروة العاجلة، والغنى المُتحصل دون جهد !
من المؤسف حقا أن تقع فئة عريضة من شبابنا ضحية صيغ متجددة من البطالة المُقنّعة، وصور الإنجاز والتألق التي لا طائل تحتها. وأن تصير النجومية والشهرة مطلبا في حد ذاته، بغض النظر عن أهمية العمل أو قيمة الجهد المؤدي إليه. وإذا كان الغزالي وابن خلدون يُبرران هذا المسلك بالعجز عن كسب المعاش من عمل شريف، فلا شك أن خلف هذا العجز مفاتيح لفهم المشكلة على نحو أفضل.
إن التربية بانفصالها عن القيم، وخضوعها للتصور المادي للحياة، تغذي في الناشئة أسباب الأنانية والفردية، وتجعل من الحياة الدنيا غاية لا وسيلة. كما أن البيئة الاجتماعية بعاداتها ومعاييرها الضاغطة ، تسهم في إشاعة أمراض داخلية تبعثر طاقات وقدرات الشباب، وتُلزمه بإطار معين يتحرك داخله، حتى وإن كان خاليا من المعنى والقيمة. لهذه الأسباب يحدد الدكتور محمد أمين المصري أهم سمات الجيل الحالي من الشباب كالآتي :
● سطحية في التفكير تؤدي إلى عدم اهتمام بالأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة أو تلك. وتتمثل السطحية في الخطاب والسلوك، ثم تمتد إلى الشخصية كلها، وإلى التفكير الخلقي والديني لدى الفرد. وبذلك يسهل تقبل الأفكار الخاطئة والدعايات الكاذبة.
● خوف من سخط الناس وطلب رضاهم، مما ينتج عنه ولاء شديد للعادات والمعايير السائدة، وتلون في المواقف. وبذلك تنحرف المعاني الإسلامية عن وجهتها السليمة.
● بعثرة الجهود وتبديد الطاقة في أمور فرعية، والاندفاع بعامل الفوضى بدل الحرص على ضبط الأمور وإحكامها.
● انعدام الشعور بالأخطار المتربصة بالأمة. فلا يستطيع هؤلاء النفاذ ببصائرهم إلى أبعد من حاضرهم القريب، لأن تصرفاتهم أقرب للطفولة اللاهية التي لا تستطيع النظر والاعتبار.
● بناء المشروعات والآمال على أحلام يقظة، يجدون فيها متنفسا لرغبات دفينة، ويسعون لتحقيقها دون جهد واضح أو مشقة.
لا حرج في الإسلام أن يسعى الفرد لتحقيق رغباته ونوازعه الفطرية، إلا أن تهذيب هذا السعي، و الحرص على إيجاد التوازن بينه وبين قيم الوحي ومعاييره أمر حيوي، لتثمر حركة الفرد، وتؤتي أكلها الحضاري. ذلك أن الحرية في الإسلام هي حرية مسددة، تهدف بالإنسان إلى الارتفاع و السمو، وإضفاء المعنى على وجوده.
دخل رجل على هارون الرشيد وقال: إني أستطيع عملا يعجز عنه غيري، فقال الرشيد: هات ! فأخرج الرجل علبة إبر، وغرس إحداها في الأرض وأخذ يرميها بسائر الإبر، بحيث تشتبك كل إبرة بثقب الإبرة السابقة. فلما انتهى أمر الرشيد بإعطائه مئة دينار وجلده مئة جلدة. وحين سُئل عن ذلك قال: أعطيته مئة دينار مكافأة على حذقه ومهارته، وأمرت بضربه مئة جلدة لأنه يضيع ذكاءه فيما لا يفيد !