في مقال سابق ذكرنا بأنه ما أتى رسول من الرسل إلى قومه إلا ليعالج مرضاً فكرياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو غيرها من أمراض. فقد كانت مهمة أي رسول تدور حول معالجة المرض، باعتبار عواقبه غير الحميدة، وغير المرغوبة لا في دنيا الناس ولا في آخرتهم. فكانت مهمة أحد الأنبياء الكرام وهو لوط عليه السلام معالجة قضايا الباطل والانحلال الأخلاقي انتشرت وتعمقت في قرى سدوم وعمورية وقرى أخرى قريبة منهما، فكانت مهمته الأساسية كبقية الأنبياء والرسل الكرام، نشر وعي مجتمعي يُخرج شعوب تلك القرى أو البلدان، من رداءة في الأخلاق والمعاملة اشتهروا بها، مع انتكاسة غير مسبوقة للفطرة السوية في عالم البشر.
اشتهرت سدوم وعمورية وما جاورهما من قرى من بين الأمم السابقة، بفساد غير مسبوق تمثل كما هو معلوم للجميع، في فاحشة الشذوذ وبشكل علني واضح فاضح، دون أي وازع من ضمير أو أخلاق، إضافة إلى فسادهم في تعاملات متعلقة بالقوافل التجارية العابرة لبلدانهم، ونهبها وإجبار العابرين على دخول أجوائهم الفاسدة!.
كانت مهمة لوط عليه السلام بيان فساد ما هم عليه وخطورة سلوكياتهم الشاذة، ومحاولة إعادتهم إلى جادة الحق والصواب والصراط المستقيم. فهل استمعوا له؟ بالطبع لا، شأنه شأن بقية الأنبياء والمرسلين الكرام. فقد وقع تصادم بينه وبينهم منذ البداية، ثم جولات من النقاشات غير فاعلة، حتى وجدوا كخلاصة لتلك الجولات النقاشية، أن لوطاً عليه السلام، صار حجر عثرة أمام استمرار أسلوب حياتهم بالطريقة المتدنية التي كانوا عليها.
منظومة الانحلال
ذلكم الباطل والانحلال الأخلاقي الذي انتشر في تلك المجتمعات، فإنما لأن منظومة متكاملة كانت تقوم عليه وترعاه، من رموز مجتمعية داعمة، ومنظمات ومؤسسات مالية، وأخرى إعلامية وغيرها من أطراف لها المصلحة بصورة وأخرى في شيوع ذلكم الانحلال الأخلاقي. كانت منظومة الانحلال ترى في لوط أنه عقبة أو حجر عثرة أمامها، وليس من بد سوى التخلص منه بصورة وأخرى، حتى ارتفعت أصوات عديدة من تلك المنظومة، جهاراً نهاراً تطالب المجتمع التخلص منه وأهل بيته، رافعين شعاراً يتكرر في كل زمان ومكان أمام أي داعية مصلح يريد الخير لمجتمعه {إنهم أناسٌ يتطهرون}. بمعنى آخر: إنهم أناس رجعيون. عقولهم مغلقة لا تستوعب التطور والحداثة التي عليها الناس، وما يقوم به لوط هو تدخل سافر في حريات الناس، الذين لهم الحق في عمل ما يشاؤون في أجسادهم، والاستمتاع بها بالطريقة التي يرغبون فيها، فما شأن لوط بكل هذا؟!
إن أراد لوط ومن معه عدم اتباع أسلوب حياتهم، فلهم ذلك، لكن لا يتدخل في شؤون الآخرين. ثم من يكون لوط حتى يعترض على طريقة عيشنا وأسلوب حياتنا؟ هكذا كان لسان حالهم ومقالهم مع دعوات لوط وحواراته معهم. وأمام تلك الدعوات الإعلامية المعادية، تمنى لوط – عليه السلام – أن لو كانت معه قوة مادية بشرية يركن إليها من أجل تطهير المجتمع من تلك الأمراض الأخلاقية المنتشرة فيه.
معركة مع الإصلاح
إذن تم رفع شعار { أخرجوهم من قريتكم إنهم أُناسٌ يتطهَّرون } ( سورة الأعراف : 82) ، تمهيداً لمعركة أو حرب قادمة حاسمة. إنهم أصحاب فكر مختلف، بل إنهم عوامل مؤثرة على تقدم واستمرار ما عليه مجتمعنا وزماننا من أسلوب وطريقة حياة. هكذا كان لسان حال تلك المنظومات تعبر عن الواقع، وهكذا تدريجياً تبلغ الجرأة بعد حين من الوقت عند تلك المنظومات أو الباطل بشكل عام، ليعتبر المكان مكانه، والقرية قريته، والزمان زمانه. ومن يختلف معه في النهج والفكر والرؤية، يكون مصيره الطرد والنفي من قريته أو قمعه واعتقاله، وفي أوقات أخرى، تصفيته.
منظومات الباطل والانحلال الأخلاقي على اختلاف صورها ومناهجها، قد تختلف مع بعضها البعض في آليات ووسائل التنفيذ، لكنها تتفق جميعاً بصورة راسخة على ضرورة محاربة أي فكر إصلاحي في المجتمع، أو أي جهود إصلاحية يمكن أن تتسبب في تعطيلها أو تغيير مسارها وإلحاق خسائر بها وبمصالحها المتنوعة.
شراسة الباطل
الباطل حين تنتفخ أوداجه في معاركه مع الحق، يتوحش في تعامله ومعاركه مع أهل الحق ورموزه. لكن ذلك لا يجب أن يبعث على الإحباط واليأس، لأن نهاية معارك الحق مع الباطل محسومة بوعد إلهي حازم واضح { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } (سورة الإسراء : 81) . الباطل ذاهب لا يستمر، وقد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق – كما جاء في تفسير السعدي للآية – لكن عند مجيء الحق، يضمحل الباطل ولا يبقى له حراك. ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنة الخالية من العلم بآيات الله وبيناته».
انتهت محاولات لوط عليه السلام مع تلك القرى الفاسدة المفسدة، والمنتكسة فطرتها، الرافضة لكل أشكال الإصلاح والتقويم، بنتيجة طبيعية تمثلت في استمرار الباطل على عناده وغيه وفساده، تماماً كما سبقتهم في ذلك الأقوام البائدة، حتى كانت نهاية هؤلاء أيضاً، ومن بعد محاولات عديدة لإصلاحهم وتوعيتهم وإعادتهم إلى الصراط السوي المستقيم، أن جعل الله عاليهم سافلهم، وأمطر عليهم حجارة ملتهبة من السماء، أحرقتهم وأبادتهم جميعاً {كأن لم يغْـنوا فيها }.
وهكذا عاقبة أي منظومة فاسدة مفسدة تتصادم مع الحق وأهله. لكن الأمر عند البشر، رغم ذلك يتكرر، ولا تجد من يرتدع ويتعظ! فإن كانت قرى الفساد في زمن لوط سبعة، كما يقول المؤرخون، فقد ظهرت مئات بل آلاف منها اليوم، في مشهد يتكرر وبصورة ربما أسوأ وأعمق مما كان بالأمس، في إشارة إلى أن المعارك بين الحق والباطل مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.